ترجع البداية الحقيقية للعَلاقات التركية الأمريكية إلى فترة الحرب الباردة، وكان هدف واشنطن من ورائها هو مواجهةَ التحدِّي الإستراتيجي، الذي مثله الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث مثَّلت تركيا مع اليونان (قبرص) مثلث المواجهة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي.
ومع انتهاء الحرب الباردة ارتبطت العَلاقات بين الجانبين بالتفاعلات السياسية والإستراتيجية في القارة الأوروبية، والتطورات الحاصلة على الساحة التركية التي شهدت تحولات جذرية على مدى العقدين الماضيين؛ تمثَّلت في انتهاءِ سيطرة المؤسَّسة العسكرية على مقاليد الأمور، خاصة بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى سُدَّة السلطة عام 2002.
وحققت تركيا منذ ما يزيد على عشر سنوات إصلاحات سياسية واقتصادية داخلية، جعلت منها قوة إقليمية تلعب دورًا محوريًّا في التحولات السياسية والإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط؛ فهي تقوم بدَوْر الوساطة لحل أزمة الملف النووي الإيراني، والمفاوضات بين الكيان الصِّهْيَونِي وسوريا.
واقتصاديًّا ارتفع الناتج القومي الإجمالي خلال هذه الفترة بنسبةٍ وصلت إلى 300 %، ما جعلها ضمن قائمة أكبر عشرين اقتصاد على مستوى العالم، وهي مرشحة لأن تكونَ ضمن أعلى عشرة اقتصاديات خلال السنوات القادمة، بفضل تحقيقها لمعدل نُمُو سنوي يناهز 6 %، وهو معدل ربما لا تحققه غيرها من القوى الصاعدة في العالم.
لكن مع ذلك تواجه تركيا عددًا من التحديات الداخلية على رأسها مسألة حرية الرأي والتعبير، خاصة في مجال الإعلام، خاصة مع استمرارها في اعتقال الصحفيين، علاوة على عدم اتخاذ (أنقرة) خطوات سريعة ومؤثِّرة فيما يتعلق بدمج الأقلية الكردية في المجتمع.
نقاط الاتفاق والاختلاف
لعب رئيس الوزراء التركي “رجب طيب أردوغان” دورًا مهمًّا في تكثيف العَلاقات مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل عَلاقته القوية مع الرئيس الأمريكي “باراك أوباما”؛ حيث أجرى الأخير ثلاثة عشر اتصالاً هاتفيًّا بأردوغان عام 2011، بالإضافة إلى أن العَلاقات بين الجانبين – خاصة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري – تتميَّز بالقوة، كما أن تركيا على رأس قائمة الدول التي يزورُ مسؤولوها الولايات المتحدة بدعوة من واشنطن؛ للتباحث بشأن القضايا المهمة في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها أهمَّ حلفاء الولايات المتحدة.
كما تشارك تركيا بقوات عسكرية في الحرب الأمريكية في أفغانستان، وتقدم لقوات التحالف العاملة هناك الدعم الفني واللوجستي المطلوب، وتساعد بقوة في الجهود الأمريكية لإعادة إعمار العراق، رغم توتر العَلاقات مع حكومة “نوري المالكي”، كما أن (أنقرة) في الوقت الراهن تلعب دورًا في دَعْم العَلاقات الأمريكية مع بلدان الربيع العربي.
ولا يجب أن ننسى موافقة تركيا على نشر قطعٍ من الدرع الصاروخية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على أراضيها، وهو اعتبرتْه واشنطن خطوة مهمة في سبيل مواجهة التحديات التي يتعرض لها الأمن الأوروبي، وذلك بالرغم من رفض (أنقرة) في البداية خشية توتر العلاقات مع إيران، لكن مع دور الأخيرة في الثورة السورية، غيَّرتْ تركيا من موقفها.
ولفهم محدّدات السياسة الخارجية التركية لا بدَّ من الوقوف على جملة من التطورات في الأمور الداخلية، والإصلاحات التشريعية والدستورية التي أجراها حزب العدالة والتنمية، والتي قلصت دور المؤسسة العسكرية، وفتحت الباب واسعًا أمام دخول الاستثمارات الأجنبية، واتخذت خطوات واسعة في مجال حقوق الإنسان؛ مثل: إلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء المحاكم العسكرية، لكن هذه الخطوات لم تُثمِر عن تقدم في مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ مما جعلها أكثر رغبة في دعم العَلاقات مع الجانب الأمريكي، ومعظم الدول في العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك بعض القضايا التي ما زالت تُثِير خلافًا في وجهات النظر بين الجانبين، خاصة المتعلقة بالمشكلة القبرصية، واعتبار الكونجرس الأمريكي أعمال القتل التي تعرَّض لها الأرمن بين عامي 1915 – 1917 إبادة جماعية، وهو ما أثار غضب تركيا، علاوة على رفض (أنقرة) للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ورفض تركيا حينها استخدام أراضيها كنقطةِ انطلاقٍ لقوات التحالف للإطاحة بنظام صدام حسين، ورفضها لقرار مجلس الأمن بفرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي.
ولعل أهم ما يعكر صفو العَلاقات بين الجانبين هو تدهور العَلاقات التركية – الإسرائيلية منذ 2008، والمواقف المتشدِّدة التي يتخذها “أردوغان” ضد القادة الإسرائيليين في المحافل الدولية، علاوة على الصورة السلبية لدى الرأي العام التركي عن الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، لا سيما أن الجمهور التركي يلعب دورًا لا يستهان به في توجيه (بوصلة) العلاقات الخارجية لأنقرة؛ مما قد تنذر هذه المحددات بتغير في العَلاقات الوثيقة بين الجانبين، على الرغم من سعي مسؤولي الجانبين إلى توطيد أواصر هذه العَلاقات.
العَلاقات الاقتصادية
مع تطور العَلاقات على المستوى السياسي والإستراتيجي، يعد المجال الاقتصادي الحلقة الأضعف في العلاقات التركية – الأمريكية؛ فقد وصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 15 مليار دولار فقط عام 2010، بالإضافة إلى الصفقات العسكرية مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ومبيعات الطائرات، بالرغم من تعهد “باراك أوباما” في زيارته “لأنقرة” عام 2009 بدعم الروابط والاتفاقيات الاقتصادية الثنائية، والاتفاق على تشكيل لجنة اقتصادية على المستوى الوزاري عام 2010.
ويسعى الجانبان إلى إقامة شراكة اقتصادية بينهما، وليس فقط زيادة قيمة التبادل التجاري، ومضاعفة الصادرات التركية إلى الولايات المتحدة بحلول عام 2015، خاصة مع دعم واشنطن لاستضافة تركيا لقمة ريادة الأعمال عام 2011، وتشجيع القطاع الخاص التركي على الاستثمار في الولايات المتحدة.
ويعوّل المسؤولون الأمريكيون والأتراك على الجانب الاقتصادي للتقليل من مخاطر توتر العَلاقات بينهما، بخصوص قضايا سياسية وإستراتيجية، خاصة أن كلاًّ منهما يحتاج الآخر في ظل التطورات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة في دول الربيع العربي، والانعكاسات التي ستؤول إليها الأوضاع في سوريا في المستقبل، وتأثير ذلك على المصالح الأمريكية في المنطقة.
ويختتم الكتاب بالقول: إن تركيا ما زالتْ تمرُّ بمرحلة انتقالية، شأنها شأن العديد من الدول التي تسير في طريق الإصلاحات الداخلية، ورسم مسارات محدَّدة لسياستها الخارجية، تساعدها على تحقيق مزيد من التقدم في المجالين السياسي والاقتصادي، ولا بدَّ أن تستفيد الولايات المتحدة من الدور التركي المتنامي في المنطقة، وأن يبذلَ صانعو القرار في الدولتين جهودًا مضاعفة لإقامة شراكة إستراتيجية واقعية، يستفيد فيها كلُّ طرفٍ من مقومات الطرف الآخر، والتخفيف من حدَّة التوترات التي تحدثُ بين فترة وأخرى بخصوص القضايا الخلافية.
إسلام أون لاين