طرح التحرك السعودي نحو روسيا، وزيارة الأمير “محمد بن سلمان” في يونيو 2015، والزيارة المرتقبة للملك “سلمان” إلى روسيا، عددًا من التساؤلات حول ما إذا كانت المملكة مقبلة على تغيير في توجهها الاستراتيجي نحو روسيا في مسار طويل لمواجهة تداعيات أفول علاقاتها الاستراتيجية الخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما إذا كان هذا التوجه السعودي يهدف فقط إلى التأثير في الموقف الروسي بشأن اليمن، وسوريا، وإيران، والنفط والإرهاب؟، وهل هذا التوجه السعودي استراتيجي أم لحظي تكتيكي؟.
ولا يدعو لتلك التساؤلات مستوى الزيارة وثقل المركز السياسي للأمير “محمد بن سلمان” في التسلسل القيادي وهرم السلطة بالمملكة (كولي لولي العهد، ووزير للدفاع، ونائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء، ورئيس لمجلس الشئون الاقتصادية والتنمية)، وإنما أيضًا للاتفاقيات العديدة للتعاون المشترك التي وقّعها البلدان، والكشف عن تعاون روسي بحصة كبيرة لبناء وتشغيل 16 مفاعلا نوويًّا للأغراض السلمية ومصادر الطاقة والمياه في المملكة، والأفكار التي طرحت بشأن إنشاء مطارات فضائية، وتفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري والتقني. ويشير ذلك إلى أن المملكة العربية السعودية تتجه إلى ترسيخ التعاون مع روسيا في المجال الذي يُشكل التحدي الأساسي للمملكة مع إيران، وهو المجال النووي، وهو ما قد يُشكل نقطة خلاف جوهرية مع الولايات المتحدة والغرب مستقبلا. ويحمل توقيت التوجه السعودي نحو روسيا دلالة خاصة، في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة وأوروبا بتوسيع العقوبات الاقتصادية عليها.
هل تحل روسيا محل أمريكا؟
ينطلق التفكير السعودي بشأن روسيا من أهداف مختلفة، فهناك تفكير مصلحي هدفه تدعيم العلاقات مع روسيا كسبيل لحلحلة الموقف الروسي في القضايا الإقليمية (سوريا، اليمن، إيران). وهناك تفكير في توظيف روسيا للضغط على الموقف الأمريكي، ودفعه للعودة لتأكيد التزاماته بشأن أمن الخليج العربي واستيعاب نتائج قمة كامب ديفيد. وهناك تفكير واقعي يأخذ في الاعتبار واقع الممارسة الدولية في القرن الحادي والعشرين، حيث إن توجه قوة إقليمية إلى بناء علاقات مع قوة دولية لا يعني خصمًا أو استقطاعًا من رصيد علاقاتها مع قوة دولية أخرى. فحتى الآن لم تُثبت سياسة تنويع الشراكات السعودية قدرتها على الإحلال محل التحالف السعودي-الأمريكي، أو تقديم ضمانات فعلية لأمن الخليج تُشكل بديلا عن المظلة الأمريكية. ويبدو أن القوى الآسيوية الصاعدة عازفة عن التفكير في ذلك، وهو أمر يدركه جيدًا صانع القرار السعودي. ومن هذه الزاوية فإن موسكو تُغازل العقل السعودي في إمكانية استبدالها كموازن للتطور الحاصل في علاقات الولايات المتحدة بإيران.
وعلى جانب آخر، تقترب إدارة الملك “سلمان” من نفس القناعات التي توصلت إليها إدارة الملك “عبد الله” فيما يتعلق بالموقف الأمريكي وإدارة أوباما، فعند تولي سلمان الحكم في يناير 2015 روج العديد من المحللين أفكارًا تُشير إلى تجدد علاقة التحالف الاستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بعد ما كاد عقد هذا التحالف أن ينفرط بسبب موقف الملك “عبد الله” من واشنطن، وجرى الحديث عن مرحلة تقارب جديدة بين الرياض وواشنطن، تتجاوز مرحلة الملك الراحل الذي نأى بالمملكة بعيدًا عن إدارة أوباما، لكن بعد ستة أشهر من حكم الملك “سلمان” تقترب الإدارة السعودية الجديدة من نفس مفاهيم الإدارة السابقة فيما يتعلق بفهم المؤشرات القادمة من واشنطن، والتي تُؤكد أن التوجهات الاستقلالية للملك الراحل كانت ردًّا على سياسات واشنطن الغامضة بشأن الالتزامات الأمنية تجاه الحلفاء، وأن هذا الغموض في الموقف الأمريكي ما زال قائمًا، وقد زاد منه انطباعات قادة الخليج إثر قمة كامب ديفيد. ومن ثم تتجه إدارة الملك سلمان إلى أن تسلك مسلك الملك الراحل نفسه في التقارب مع روسيا، ويبدو أنها انتهت إلى نفس القناعات، بأن الابتعاد الأمريكي عن المنطقة ذو أساس استراتيجي.
وبالإضافة إلى المتغيرات الأمريكية التي تُرجِّح توجهًا سعوديًّا استقلاليًّا لدعم العلاقات مع روسيا باعتباره خيار الضرورة؛ فإن المتغيرات الإقليمية تدفع هي الأخرى إلى ذات التوجهات، وتنتهي إلى تسكين المملكة في مساحة التحرك والخيارات الاستراتيجية التي أقدمت عليها منذ بدايات الثورات العربية في عام 2011. فعلى الرغم من الحديث المتكرر عن محور (سعودي قطري تركي) خلال عهد الملك “سلمان”، على حساب المحور (السعودي المصري الإماراتي) خلال فترة الملك “عبد الله”؛ فليست هناك أية مؤشرات على قيام المحور الأول، وهو أمر لم يُخفِه من طرحوه وروجوا له، كما أن التحديات والتهديدات الاستراتيجية داخل المملكة وفي المنطقة تنتهي إلى تسكين المملكة في دائرة التحرك الاستراتيجية ذاتها التي عمل عليها الملك الراحل، وهي دائرة تضع المملكة في قلب المواجهة الإقليمية مع الإرهاب، وجماعات الإسلام السياسي.
وتكشف البرقية التي أرسلها الملك “سلمان” وولي عهده الأمير “محمد بن نايف بن عبد العزيز” للرئيس “السيسي” ردًّا على سلسلة الهجمات الإرهابية في سيناء في أواخر يونيو 2015 عن موقف مماثل لموقف الملك “عبد الله” بعد 30 يوليو 2013، وهو موقف تساندي مع مصر، مما يشير إلى تحكم المتغيرات الاستراتيجية واكتسابها الأولوية لدى صانع القرار السعودي على أي توجهات أو قناعات أيديولوجية قد تكون خاصة به في هذه المرحلة التي تبرز فيها الأخطار على الدولة الوطنية في المنطقة.
احتمالات التطور إلى شراكة استراتيجية:
لا يُشير التطور في العلاقات السعودية-الروسية إلى إمكانية التعرف إلى أبعاده الاستراتيجية قريبًا، فقد يتطور التقارب على أرض الواقع لينتج تحالفًا، أو يتراجع ليؤكد أنه لم يكن أكثر من تقارب مصلحي ظرفي يؤدي مهمته وينتهي، والمؤكد أن لدى البلدين تفكيرًا في إمكان الوصول بالعلاقات إلى أشكال تطورية أعلى على نحو يُحقق لكل منهما مصلحة خاصة؛ حيث يواجه كل منهما مشكلات في علاقاته وتحالفاته السابقة؛ روسيا مع الغرب عمومًا، والسعودية مع الولايات المتحدة تحديدًا.
ويُعزز من ذلك أن أغلب القضايا الخاصة بالسياسة الخارجية السعودية هي قضايا خاصة بروسيا (إيران، سوريا، اليمن، العراق، مصر، الإرهاب، النفط)، والآن تفوق الاعتراضات الخليجية على الولايات المتحدة الاعتراضات على روسيا (موقف أمريكا من سوريا، وموقفها من اليمن، وداعش العراق). وخلافًا للولايات المتحدة أظهرت روسيا أنها حليف موثوق به للدول الصديقة، كما أنها لا تُثير مشكلات تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، ولا تتدخل في الشئون الداخلية للدول، وتنهض عقيدة أمنها القومي على الإيمان بدور القوى المؤسسية للدولة في حفظ الدولة الوطنية، وتقاوم انفصال العرقيات والمناطق، وهو أمر يتسق مع الهواجس الراهنة لدول الخليج والعالم العربي. ومن ثم فإن التقارب لا ينتج عن الرغبة فقط، وإنما يندفع بالحاجة أيضًا. ومع ابتعاد واشنطن عن دول الخليج، وتقاربها مع إيران، تتنامى لدى الروس أيضًا هواجس من تطور العلاقات الإيرانية-الغربية لتنتهي إلى سيناريو شبيه بالسيناريو الأمريكي مع مصر بعد معاهدة السلام 1979. وهو أمر يوفر لروسيا حوافز لتطوير العلاقات مع المملكة كبديل مستقبلي محتمل لفاقد علاقاتها مع إيران، إذا أعيد التموضع الإيراني في الاستراتيجية الأمريكية.
وفي كل الأحوال فإن الاستدارة السعودية نحو روسيا أو الروسية نحو الخليج سوف تحتاج فترة عقدين أو ثلاثة، وربما تشهد المنطقة بعدها تحالفًا استراتيجيًّا فعليًّا بين دول الخليج وروسيا، وهي الفترة ذاتها التي قد تشهد تفكيكًا للعلاقة الخاصة بين واشنطن ودول الخليج، وبين روسيا وإيران. ومن ثم، ستظل تجربة العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة تربط دول الخليج بواشنطن لفترة مقبلة، ولكن الأرجح أن السعودية تريد الانعتاق من الشراكة الأمريكية الضيقة، وتوسيع خياراتها، وأن التوجه السعودي نحو روسيا مصحوب أيضًا بتوجه سعودي لتنويع التحالفات مع شركاء عالميين آخرين كفرنسا والصين والهند واليابان، ومن ثم لن تكون علاقة المملكة بروسيا استبدالا لحليف بحليف، وإنما جزءًا من مسعى أشمل لتنويع الشراكات، وتحقيق أمن الخليج عبر “شراكات متعددة” وليست “تحالفات حصرية”.
وسوف يظل العامل الأمريكي ولفترة مؤثرًا هامًّا على مستوى العلاقات الخليجية مع روسيا، وستبقى دول الخليج والمملكة العربية السعودية لفترة غير قادرة تمامًا على مواجهة الغضب الأمريكي إذا اعترضت الولايات المتحدة على تلك التوجهات. ومن ثمَّ يظل الفيتو الأمريكي على تطور العلاقات الخليجية مع روسيا قائمًا، في ظل كثافة ونوعية الارتباطات القائمة، وأوراق التأثير الأمريكية على دول الخليج. وعلى الجانب الروسي سوف تظل روسيا لفترة أيضًا غير قادرة على التحرك مع دول مجلس التعاون الخليجي باستقلالية كاملة، في ظل عدم إمكان التوفيق بين دول المجلس وإيران، والاختلاف في الموقف من القضايا الإقليمية، وسوف تنتظر روسيا لفترة تتأكد من خلالها من مصداقية التوجهات السعودية، وأن المملكة لا تهدف إلى توظيفها للقيام بدور المهماز الذي يُعيد المياه الدافئة إلى علاقاتها بواشنطن، ثم يجري العزوف عنه بمجرد انتهاء الدور الذي يلعبه في فترة التوتر بين الحلفاء.
د.معتز سلامه
المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية