لا يزال تنظيم الدولة يقوم بعملياته الإرهابية في سوريا، وذلك بعد مرور أشهر على التدخل الروسي في الأراضي السورية، حيث قام هذا التنظيم في 23 مايو المنصرم بعمليات تفجير تضمنت تلغيم أكثر من سبع سيارات وتفجيرها بالمدن الساحلية لجبلة وترتوس، مما أسفر عن مقتل ما يربو عن 150 مدنيا وجرح أكثر من 225 آخرين، ذلك أن التفجيرات شملت محطات الحافلات والمحطات الكهربائية ومستشفى حكومي.
في واقع الأمر، فإن هذه الهجمات المنسقة، والتي تعد الأولى من نوعها في المحافظات المهمة للأسد على البحر المتوسط، حملت في طياتها رسالة في غاية الخطورة للأسد مفادها “على الرغم من خسارة محافظة تدمر في آذار الفائت والتهديد المسلط على التنظيم في الفلوجة في العراق، لا يزال التنظيم قادراً على ضرب نظام الأسد في عقر داره”. وكانت لهذه الرسالة الأثر المراد.
وقد عمد نظام الأسد، منذ التدخل الأول لروسيا في أيلول 2015، إلى فرض قوته على المعارضة السورية وهزمها، بالتعاون مع إيران وحزب الله، وذلك قبل أن يصبح تنظيم الدولة العدو الأول للنظام. كما ساهمت هجمات وتفجيرات تنظيم الدولة في تأجيج مخاوف روسيا ما دفعها إلى التدخل في سوريا، نظراً لأن الأسد وجيشه يعتبران عاجزين عن حماية ما تبقى من السكان السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
معضلة لروسيا
قرر الأسد بالتعاون مع روسيا، قبل شهرين فقط من اندلاع الهجمات والتفجيرات، إيجاد حل للصراع في سوريا، بعد خمس سنوات من اندلاع الثورة. ونجح الجيش السوري، جنباً إلى جانب مع وحدات الجيش الإيراني في السيطرة على محافظة تدمر والآثار الرومانية بعد تشابك مع تنظيم الدولة. كما سعى الرئيس الروسي إلى إيجاد نهاية للعبة من خلال سحب عدد من الطائرات الحربية، مع ضمان خط الدفاع الممتد من دمشق وصولاً إلى اللاذقية مروراً بحمص.
وخصصت موسكو تركيزها على تسوية سياسية من شأنها تأمين النظام، وذلك من خلال المحادثات الجارية في جنيف. في ذات الوقت، كان بإمكانها مهاجمة تنظيم الدولة ومقاتلي جبهة النصرة. مع ذلك واجهت موسكو تحدياً غير متوقع يتمثل في قرار الأسد بعدم تخليه عن الحكم في المستقبل إلى جانب رفضه لسلطة الحكم الانتقالي، حتى قبل محادثات جنيف.
هذا القرار الذي أثر على سير الأحداث ووجهّها إلى نتائج سيئة للغاية على ساحة المعركة، فقد ركزت المعارضة وجبهة النصرة هجماتها بالقرب من محافظة حلب، وتمكنت هذه الأخيرة خلال شهر ابريل من استعادة العديد من الأراضي رغم الخسائر المسجلة في صفوف الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية والأفغانية.
كما كثفت الطائرات السورية والروسية هجماتها العنيفة، متجاهلةً بذلك قرار وقف الأعمال العدائية، ما تسبب في مقتل المئات من المدنيين وتفجير المستشفيات وغيرها في محافظة حلب، ولكنها فشلت في استعادة نفوذها على ساحة المعركة. بالإضافة إلى ذلك، وفي الوقت الذي تعاني فيه إيران من الخسائر الفضيعة، سيطرت المعارضة وجبهة النصرة على قرى في حمى ومناطق في شمال حمص.
في الأثناء، كان تنظيم الدولة نشطاً في المناطق الأخرى، بما في ذلك محافظة تدمر حيث نجحوا في الاستيلاء على حقلي غاز مهمين للغاية مكنته من تحكيم قبضته على الطاقة في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، قام بمهاجمة قوات الأسد في مدينة دير الزور.
وتمكن الجيش السوري بمساعدة حزب الله من محاصرة جزء من محافظة الغوطة بالقرب من دمشق. ولكن، وعلى الرغم من أن النظام اعتبر ذلك فوزاً كبيراً، إلا أن موسكو وضعته أمام تحديات كبيرة، حيث يكمن سبب نجاحهم في الاستيلاء على الغوطة الشرقية في ضعف المعارضة من جراء الصراع ونقل حزب الله لمقاتليه إلى الجهات القريبة.
واحتفل أنصار الأسد على إثرها بالانتصار ولكن الدرس كان واضحا: بإمكان النظام الاستمرار في الحكم في حال تأمينه لمنطقته الأساسية وإبعاد المعارضة من دمشق والمحافظة عل الخط المؤدي إلى حمص والبحر الأبيض المتوسط. وتبقى فكرة إعادة السيطرة على سوريا أو أكبر عدد من المناطق وهماً كبيراً.
الآن، تسببت تفجيرات تنظيم الدولة في القضاء على أكبر آمال النظام وأججت الغضب والضغينة في صفوف الشعب السوري، حيث قام بعض السكان بمهاجمة ما يربو عن 500.000 مهاجر سوري قرب جبلة وطرطوس وحرق خيامهم وإصابتهم بجروح، مما استدعى تدخل محافظ ترتوس لتهدئة الوضع قائلا: “الرجاء الكف عن مهاجمة ضيوفنا، فلا يوجد بيننا إرهابيون.”
وحاول الأسد قلب الأوضاع والاستفادة من الهجمات لتحقيق مكاسب سياسية من خلال اتهام أحرار الشام وتحميلهم المسؤولية، في حين أكد الكرملين على ضرورة اتخاذ خطوات حثيثة لمواصلة عملية التفاوض.
ولن يقوم تنظيم الدولة أو حتى المعارضة بالاستيلاء على اللاذقية أو طرطوس، ولكن هذا ليس مهماً لأن الصراع لم يعد يتمحور حول السيطرة على المناطق وافتكاكها.. إنها حرب استنزاف لإجبار كل أطراف المعارضة على الاستسلام والتخلي عن النصر والأمل الذي يرافقه.
وجاء تدخل روسيا وإيران وحزب الله كوسيلة فورية وناجعة لتسريع هذا الاستنزاف، الذي اضطرت على أثره المعارضة للاستسلام أثناء المفاوضات وبرز فشلهم في ساحة المعركة وأيضا على الساحة الدبلوماسية، رغم الدماء التي هدرت في سبيل نصرتهم. في ذات الوقت، لا يزال الأسد مواصلاً في دور المتخفي الذي تتولى القوات الأجنبية أموره العسكرية وتدعم منصبة إيران وروسيا، على مضض. وسنترقب مستقبلاً طريقته ومحاولاته في الحفاظ على “شعبه السوري” عندما يتقدم تنظيم الدولة لضرب المناطق القريبة من عائلته وأجداده.
التقرير