كورونا وسيناريوهات محتملة: أين يتجه العالم والشرق الأوسط في نيسان 2021؟

كورونا وسيناريوهات محتملة: أين يتجه العالم والشرق الأوسط في نيسان 2021؟

يتعاطى المفكرون والصحافيون والفاعلون في الأسابيع الأخيرة مع آثار أزمة كورونا على العالم. ومع أن هناك آراء أخرى، فتوصف الأزمة في معظم المواقف كحد تأسيسي على مستوى تاريخي سيغير العالم الذي نعيشه تغييراً جوهرياً، وذلك مثل الأوبئة واسعة النطاق التي وقعت في الماضي، والحروب العالمية، والأزمات الاقتصادية العالمية، والأحداث التاريخية عظيمة الأثر والتداعيات الأخرى. وإلى جانب هذا الإجماع شبه الجارف قد نلاحظ في الخطاب الذي يثور حالياً بضع خلافات مبدئية أيضاً: هل سيخلق وباء كورونا ميولاً تاريخية جديدة أم لعله يسرع تلك الميول القائمة؟ وبالطبع.. ما الصورة التي سيكون عليها النظام العالمي الذي سيتشكل بتأثير أزمة كورونا.

ثمة قيمة عملية للبحث في الآثار المستقبلية المحتملة للأزمة، وبالتالي فإن على العالم أن يجري بالتوازي مع الانشغال في إدارة الأزمة نفسها، وذلك كي نفهم تلك الآثار البعيدة المدى للقرارات التي تتخذ في الحاضر، لتشخيص التهديدات والفرص، وكذا للسماح بالعمل لتصميم الواقع المرغوب فيه. والأداة التي سنستخدمها في هذا المقال هي “مستقبليات محتملة”. بمعنى سيناريوهات خيالية لها أساس في الظروف الحالية، وهي تروي روايات استراتيجية مختلفة عن العالم بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص بعد سنة؛ أي في نيسان 2021. ومع ذلك، ليست هذه محاولة للتوقع أو التنبؤ بالمستقبل، بل وسيلة مساعدة للتخطيط يفترض بها أن تساعد أصحاب القرار والجمهور الغفير للتفكير في المستقبل بهدف الاستعداد لاستقباله.

لقد بدأت أزمة كورونا في نهاية عقد تميز بمنافسة استراتيجية متعاظمة بين القوى العظمى، وبهزة إقليمية متواصلة في الشرق الأوسط، وبعولمة شوشت الحدود المادية وبثورة معلومات غيرت أنظمة العالم. وفي أساس السيناريوهات ثمة افتراض بأن وباء كورونا سيؤثر على الواقع بثلاثة طرق أساسية:

1. يلزم اللاعبين العالميين والإقليميين المتنافسين على تنظيم أنفسهم حياله بشكل كفيل بأن يغير ويهز مبنى النظام العالمي والإقليمي الهزيل. 2. يشوش السياق العالمي العادي، وهكذا يخلق أحداثًا وتطورات ذات مغزى ما كانت لتوجد بدونه، 3. يشكل آلية قتل ودمار يمس بشكل متواصل بصحة الجمهور والاقتصادات والتفاعلات الاجتماعية.

سيناريو 1 – “التواصل”: توقف مؤقت وعودة إلى الميول السابقة

حسب هذا السيناريو المتفائل، تنجح معظم الدول في الوصول إلى التحكم بتفشي الوباء في صيف 2020 وبعض من الاقتصادات الكبرى ستعود إلى مستوى نشاط مشابه لذاك الذي سجل قبل الأزمة: الصين في الربع الثالث من السنة، الولايات المتحدة في الربع الرابع، وأوروبا في الربع الأول من العام 2021. فروع مثل الطيران والسياحة والمطاعم ستتضرر بشدة، وأخرى ستنمو، مع التشديد على استخدام الإرساليات والعمل على الشبكة. مع نهاية 2020، تعود الحياة بالتدريج إلى مسارها، وهكذا أيضاً أنماط الحياة التي كانت معروفة قبل الأزمة، وإن كانت هذه ستترافق وخطى حذر ضروري. الرحلات الجوية ستستأنف، والعاملون سيعودون إلى أماكن العمل، وبالتدريج ستفتح مراكز الترفيه وقضاء وقت الفراغ. كما أن أجهزة التعليم ستعود إلى العمل المنتظم في بداية العام الدراسي القادم.

في هذا السيناريو، فإن المبنى الهزيل وكثير الأقطاب للنظام العالمي لن يتغير، وستتواصل الميول التي تميزت بها الساحة الدولية عشية الأزمة وفي أثنائها. ستسمر المنافسة بين القوى العظمى (بل وربما ستحتدم)، وهكذا أيضاً المصاعب التي تقف أمامها في مواجهة التحديات العالمية والإقليمية.

ستركز الولايات المتحدة في ما تبقى من السنة على حملة الانتخابات الرئاسية، التي ستجرى في تشرين الثاني، وستكون لنتائجها أهمية كبيرة على ما سيكون لاحقاً. وفي أثناء حملة الانتخابات، سيواصل الرئيس دونالد ترامب اتهام الصين بالمسؤولية عن الأزمة، بل وقد يتخذ قراراً بإعادة القوات الأمريكية من العراق وسوريا وأفغانستان (عقب العدوى بفيروس كورونا) والتهديدات العسكرية على القوات، ولتحسين فرصه للانتصار في الانتخابات). وفي مركز حملة الانتخابات التي للجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، ثمة افتراض بأن تكون هناك خطة مساعدة عظيمة الحجوم لإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي. أما الصين، من جهتها، فستقدم المعلومات والمساعدات في موضوع كورونا لدول أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، كما ستحاول زيادة نفوذها في هذه المناطق من خلال استثمارات استراتيجية أيضاً. وروسيا ستستغل الفرص في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا وساحات أخرى. أما الدول الأوروبية فستحاول التغلب على النتائج الخطيرة للأزمة في أراضيها، بالتوازي مع الانتقاد الشديد على سلوك الاتحاد الأوروبي في أثناء الأزمة.

في الشرق الأوسط ستفاقم أزمة كورونا المشاكل الأساسية (فوارق المحكومية والأداء، البطالة، الفساد، انعدام المساواة والتعلق بالنفط وبالمساعدات الخارجية)، ولكن في هذا السيناريو، ستنجو الأنظمة من الأزمة. ومع ذلك ستستأنف في نهاية الأزمة مظاهر الاحتجاج الشعبية، التي ميزت المنطقة في العام 2019 وتوقفت مع بدايتها. كل مراكز القوى في المنطقة ستسعى إلى الامتناع عن التصعيد، ولكن هذا سيستأنف في السنة القادمة (في سوريا، لبنان وقطاع غزة) حول الهجمات الإسرائيلية لإحباط التهديدات القائمة والمتشكلة أو نشاط الجهات المارقة. إيران هي الأخرى ستعود في هذا السيناريو إلى الميول السابقة، الاستفزازية، التي ميزتها سواء في السياق الإقليمي أم في الموضوع النووي.

سيناريو 2 – “التحول”: نظام عالمي غير ليبرالي بقيادة الصين وتغيير في أنماط الحياة

كلما مر الوقت وتواصلت الأزمة، سيرتفع احتمال السيناريو الثاني، الذي تتواصل الإجراءات الوقائية فيه في أرجاء العالم، على نطاقات مختلفة، حتى نهاية العام 2020 على الأقل، وعلى ما يبدو بعدها بكثير أيضاً. وذلك عقب انفجارات لموجات أخرى من الوباء أو عقب عدم نجاح معظم الدول في إزالة القيود التي فرضت على الحياة اليومية دون أن يرتفع مرة أخرى منحنيَي المرضى والوفيات. في هذه الظروف، سوف تتغير أنماط الحياة لمعظم مواطني العالم بشكل يعزز الميول التي سجلت في الأشهر الأخيرة: التباعد الاجتماعي، والانتقال إلى العمل بالشبكة، والاعتماد على الإرساليات والامتناع عن استخدام المواصلات العامة، والامتناع عن زيارة المنشآت التي تعج بالناس.

أنماط عمل الصين تجاه تفشي الفيروس أكثر ملاءمة للتصدي لحالة الطوارئ المتواصلة التي يتميز بها هذا السيناريو. وبالتالي، يحتمل أن تنشأ فجوة واسعة بين الانتعاش المبكر للصين (ربما حتى في الربع الأخير من هذه السنة) وبين تواصل أوضاع الخلل في عملية مواجهة كورونا في الولايات المتحدة وانتعاشها المتأخر أكثر على ما يبدو فقط في الربع الثاني من العام 2021. في هذا الوضع، قد تنشأ مصاعب لإجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني 2020، وقد تهتز شرعية نتيجتها وتصعّب اتخاذ قرارات حيوية (مثلًا) عقب مداولات طويلة في الاستئنافات على النتائج في المحكمة العليا.

تخوض الصين منذ الآن حملة تأثير واسعة النطاق كي تعرض نفسها كمتصدرة عالمية لمكافحة فيروس كورونا. وفي هذا السيناريو قد تستغل الضعف الأمريكي لتحقيق موقع قيادة يؤدي، على المدى الزمني الأبعد، إلى نظام غير ليبرالي يقوم على أساس الدول القومية السيادية القوية والمنفصلة، التي لكل واحدة منها هوية مميزة. في النظام غير الليبرالي ستحترم كل دولة هوية وسيادة جيرانها، وبالتالي قد تعيش بسلام بل وتتاجر الواحدة مع الأخرى. ولكن هذا النظام يتنكر لفكرة حقوق الفرد والمواطن الكونية التي تتجاوز الحدود والثقافات، ويفضل الدول القومية على المؤسسات الدولية. من المتوقع لنظام عالمي من هذا النوع أن يؤيده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

إن النموذج الصيني للحكم المطلق الرأسمالي (نظام سلطوي واقتصاد مركزي إلى جانب اقتصاد السوق واستخدام أجهزة الترقب والتحكم المتطورة المتوغلة بخصوصية الفرد) قد يشكل مصدر إلهام تزداد جاذبيته في الدول الديمقراطية أيضاً، كلما استمرت حالة الطوارئ. أجهزة الترقب والتحكم (القائمة على أساس المعلومات الكبرى والعقل الصناعي) التي ستستخدم في بداية الأزمة ستواصل العمل وستتبنى بعض الدول أيضاً فكرة “جزر الإنترنت” القومية، المميزة عن الشبكة العالمية بإنتاج الشبكة الصينية. أما الصين فستستخدم عندها آليات المساعدة والاستثمار في الدول المختلفة كي تحصل على المعلومات التجارية والأمنية والشخصية.

في الشرق الأوسط يحتمل أن يؤدي مثل هذا السيناريو إلى فوارق واضحة في شكل مواجهة الدول لتفشي الفيروس. إيران، ومصر، والأردن، والعراق ودول الخليج ستستخدم أجهزة الأمن القومية لديها وستنجح (بمساعدة صينية كبيرة) للتصدي الأفضل للوباء. هكذا أيضاً سيكون على ما يبدو في قطاع غزة ومناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. ومع ذلك، في مناطق الحرب في اليمن، في ليبيا وفي سوريا أيضاً، يمكن أن تنشأ أزمة إنسانية واسعة النطاق. في مثل هذا السيناريو سيكون أسهل على الأسرة الدولية تجاهل الخطوات الاستفزازية الإيرانية في المجال النووي. وذلك أساساً عقب السيطرة التي ستكون للصين وروسيا، وكذا عقب تبني الفكرة المبدئية التي في أساس النظام غير الليبرالي حول سيادة الدول والامتناع عن التدخل في نطاقها.

سيناريو 3 – “التفكك”: تضعضع مبنى النظام القائم، الفوضى والمواجهات العنيفة

في السيناريو الثالث، لا يتحقق تحكم في تفشي الفيروس حتى تطوير اللقاح بعد نحو سنة ونصف إلى سنتين. في هذه الحالة، ستكون كل الاقتصادات الكبرى في أرجاء العالم بعيدة عن المستوى الذي سجل عشية الأزمة، ومشكوك أن تصل إليها قبل منتصف العقد. في هذه الظروف، سيخرج كل اللاعبين الدوليين من الأزمة متضررين ومرضوضين، وسيتطور النظام العالمي إلى الفوضى. ستفقد الولايات المتحدة مكانتها العالمية وستطلق في داخلها أصوات تشكك بجدوى الإطار الفيدرالي والحاجة إليه. ومع ذلك، فإن الصين وروسيا أيضاً لن تتمكنا من الانتعاش من الأزمة (لأن حجم الوباء فيهما سيتبين أنه كان أكبر مما نشر). في مثل هذا السيناريو، تحتمل أزمة غذاء عالمية وموجات عنف على خلفية قومية ومواجهات عنيفة، حتى في وسط أوروبا. وستشل أجهزة التعاون الدولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية) فإما أن تُحيّد أو تحل.

يمكن لمثل هذا السيناريو أن يؤدي في الشرق الأوسط إلى موجة جديدة من الهزة الإقليمية، في مركزها أزمة إنسانية واسعة، ولا سيما في المدن المكتظة ومخيمات اللاجئين، وانهيار المنظومات السلطوية. في هذه الظروف، يمكن للحرب في سوريا أن تستأنف بأشكال مختلفة، حزب الله سيسيطر على لبنان عقب انهيار أجهزة الدولة، وستقع في إيران مواجهات عنيفة متواصلة بين النظام والجمهور، وستنشأ في قطاع غزة فوضى تامة (مثلما في الصومال)، وستتفكك السلطة الفلسطينية إلى كيانات محلية ذات حكم ذاتي. أما داعش، أو منظمة جهادية مشابهة، قد تنشأ على خلفية الهزة وتسيطر على مناطق واسعة في العراق وسوريا ومصر (شبه جزيرة سيناء)، وليبيا، واليمن والسعودية.

سيناريو 4– “إعادة البناء”: جهد دولي بقيادة الولايات المتحدة للحفاظ على النظام الليبرالي

في السيناريو الرابع أيضاً ستتواصل الإجراءات الوقائية في أرجاء العالم ضد انتشار كورونا، بحجوم مختلفة، حتى نهاية 2020 على الأقل. وفي هذا السيناريو تبدأ بالانتشار في حزيران وتموز 2020 تقارير تقول إن الصين تخفي حجوم المصابين والموتى بحجوم هائلة (مثلاً، هناك مليونا مصاب وأكثر من 100 ألف متوفى). مثل هذه المنشورات تؤدي إلى أزمة في القيادة الصينية واستقالة الرئيس تشي جين فينغ ومقربيه. وذلك بالتوازي مع قرار دول عديدة في أرجاء العالم للتحرر من سلسلة التوريد المتعلقة بالصين كمركز للإنتاج العالمي.

ولكن مركز الثقل في هذا السيناريو هو الولايات المتحدة. في هذا السيناريو، ستجرى الانتخابات في الولايات المتحدة في تشرين الثاني 2020، ويحقق المرشح الديمقراطي انتصاراً واضحاً لا لبس فيه. بعد شهر من ذلك تقر الـ FDA لقاحاً طوره معهد بحوث أمريكي. وعندها تنتعش الولايات المتحدة وتقود، ابتداء من كانون الثاني 2021 جهداً مشتركاً للدول الديمقراطية الغربية الليبرالية لمساعدة الدول في العالم للتصدي لانتشار الفيروس، لتجاوز الهبوط الاقتصادي، ولحفاظ على النظام الليبرالي ولحل النزاعات الإقليمية المشتعلة. هذا السيناريو يبرز الأهمية الهائلة لموقع القيادة الأمريكية في النظام العالمي، التي كانت تخلت عنه عملياً في عهد ترامب. انتخابات 2020 ستكون حينذاك فرصة أيضاً لنشوء قيادة أمريكية جديدة إلى الفكرة الديمقراطية الليبرالية. يمكن لهذه أن تعمل إلى جانب زعامات وزعماء آخرين برزوا على خلفية الأزمة الحالية في الدول الغربية.

في مثل هذا السيناريو ستقدم المساعدة للدول في الشرق الأوسط أيضاً، وستجرى مفاوضات على اتفاق نووي محسن مع إيران ويحتمل أن يؤدي أيضاً إلى عقد مؤتمر دولي وإلى مسيرة تسويات مثل تلك التي قادتها الولايات المتحدة في التسعينيات. ويحتمل أن يستأنف أيضاً مطالبة الأنظمة في الشرق الأوسط وغيره باتخاذ خطوات باتجاه التحول الديمقراطي.

الخلاصة

إن ربط السيناريوهات في قصة مركزية واحدة يتأثر أيضاً بالخطاب الجاري مؤخراً، ويخلق سيناريو منطقياً يمكن بموجبه أن ينشغل كل اللاعبين الدوليين في الزمن القريب بشؤونهم الداخلية أساساً. وستستمر المنافسة بين القوى العظمى وفي مركزها المعركة على رواية التصدي الأنجع لأزمة كورونا. وسيتواصل الميل لنقل النفوذ شرقاً بل وربما سيتسارع. الدول القومية ستتعزز، عقب النجاعة التي تبديها معظمها في مواجهة الوباء. العالم لن يتغير تماماً، ولكنه سيكون أقل حرية بسبب خطوات الطوارئ وعمل أجهزة الرقابة المتسلطة ستستمر؛ وسيكون أقل ازدهاراً بسبب العاطلين عن العمل وازدياد الفقراء؛ وسيكون أيضاً أقل عولمة لأننا سنسافر أقل وسنعمل من البيت، وسنكتظ أقل في المدن، وستحرص الدول على الاحتياطات الاستراتيجية وعلى استقلالية الصناعات الحيوية.

ستكون لمجريات المحيط الاستراتيجي آثار على المحيط العملي ومزايا المواجهات العسكرية وشكل تطور القوات العسكرية، للدول ولغير الدول. وأخيراً، سيكون هناك تحويل للميزانيات القومية، كما في إسرائيل ودول غربية، لإعادة بناء الاقتصاد والجهاز الصحي على حساب ميزانيات الدفاع والميزانيات في مجالات مدنية أخرى.

القدس العربي