يلجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إستراتيجية المهادنة تجاه الأوروبيين كنوع من المناورة من أجل دفعهم إلى النظر في إمكانية شطب عقوبات فرضها التكتل على بلاده بسبب التصعيد شرق المتوسط وتسوية بعض الملفات الخلافية، في تحرك مفضوح يقول محللون إنه مسعى لكسب ودهم قبل الدخول في توتر مفتوح على كافة الاحتمالات مع إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن.
أنقرة– يستبق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض قد يكون أكثر عدائيةً تجاه أنقرة من سلفه من خلال سعيه إلى تهدئة علاقات أنقرة مع الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من التوتر على خلفية العديد من القضايا، التي أوصلت الطرفين إلى تبادل الاتهامات.
وتبدو هذه المهادنات، التي دأب عليها أردوغان كلما ضاق عليه الخناق، مألوفة. ويقول محللون ودبلوماسيون غربيون إن إشارات التهدئة، التي شرعت تركيا في إطلاقها مؤخرا، لا تعدو أن تكون ظرفية ومقرونة بتنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن الأربعاء المقبل، وهي محاولة لكسب الوقت والتنفيس عن الضغوط الهائلة مع الأروبيين قبل الدخول في جولات توتر أقسى مع الولايات المتحدة.
الأمر اللافت في كل ذلك هو إلى متى سيظل أردوغان يناور مع الحلفاء الأوربيين مع كل خلاف يطفو على السطح؟ وكيف بإمكانه كسب صداقات جديدة في ظل المتغير الأبرز على الساحة الدولية وهو وصول رئيس لا يتعامل معه على أنه صديق كما فعل معه الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب.
مناورة تركية للتنفيس
دأبت أنقرة على المناورة وتقديم تنازلات شكلية لقادة الاتحاد الأوروبي قبل أي قمة أو اجتماع ينظر في تشديد الخناق على سياساتها، لتعود إلى التصعيد بعد ذلك. وقد نجحت هذه الإستراتيجية عدة مرات في تلافي عقوبات أوروبية كانت تركيا قريبة منها بعد أن أطلقت تعهدات بالتهدئة سارعت في ما بعد إلى نقضها.
وفي مؤشر على استيائها من دبلوماسية تركية ترى أنها تزداد عدوانية، اتفقت الدول الأوروبية الشهر الماضي على فرض عقوبات على أنقرة على خلفية التنقيب أحادي الجانب عن الغاز في شرق المتوسط.
وأثارت تركيا استياء شركائها الغربيين أيضاً من خلال تدخلها في ليبيا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في طرابلس ونقل الأسلحة إلى ليبيا لمعاضدة جهود رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج للسيطرة على غرب البلاد، وأيضا بدعمها أذربيجان في نزاعها مع أرمينيا في منطقة ناغورني قره باغ.
وليس ذلك فحسب، فثمة العديد من الاستفزازات الأخرى التي دأب عليها أردوغان تجاه الأوروبيين، مثل التهديدات التي يطلقها في البحر المتوسط، وأيضا العلاقة مع دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكذلك أزمة الهجرة وتنقيب سفن تركيا عن الغاز في السواحل القبرصية.
وتقود فرنسا منذ أشهر جبهة أوروبية من أجل التصدي للأجندات التركية في شرق المتوسط، وعددا من الجبهات الأخرى على غرار ليبيا وسوريا وناغورني قره باغ وأزمة الهجرة والتنقيب في سواحل قبرص.
ولكن بعد أشهر من الخلافات، التي كانت ذروتها مبادلات كلامية مهينة بين أردوغان ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، يؤكد الرئيس التركي أنه يرغب في “فتح صفحة جديدة” في العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي. وتبادل الرئيسان رسائل في الأيام الأخيرة في ما قد يعدّ مؤشرا على مصالحة بينهما.
ومدت أنقرة اليد أيضاً إلى أثينا بدعوتها إلى محادثات مقررة أواخر يناير الجاري بشأن التنقيب عن موارد الغاز والنفط في المتوسط، لكن لا أحد يعلم بالضبط ما ستؤول إليه تلك المحادثات بالنظر إلى منسوب التوتر الذي تصاعد طيلة العام الماضي.
وتخوض تركيا واليونان، العضوان في الناتو، نزاعا حول نطاق الجرف القاري لكل منهما، وكلتاهما تطالب بموارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط. واندلع خلاف في أغسطس الماضي عندما أرسلت تركيا السفينة “أوروتش رئيس” إلى المياه التي لليونان وقبرص أيضا مطالب فيها.
ويشير دبلوماسي أوروبي إلى أن تركيا خففت من حدة نبرتها لأنها “لا يمكن أن تسمح بتصاعد التوتر مع الولايات المتحدة وأوروبا في وقت واحد، لاسيما وأن اقتصادها في وضع هش”.
والسبت الماضي، شدد أردوغان على أن تركيا تولي العلاقات مع إيطاليا أهمية بالغة، معربا عن رغبة الأتراك في عقد القمة الثالثة بين حكومتي البلدين في تركيا لبحث التعاون المشترك مع حكومة الوفاق الوطني، لكن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان سيتحقق ذلك على الأرض في ظل أزمة كورونا.
البحث عن أصدقاء
بعد أن اتسمت ردود فعل أردوغان بالتحدي والنبرة العالية تجاه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة، تغيرت لغته لتصبح مغرقة في الدبلوماسية من أجل تخطي عقبة أساسية وهي مشكلة الاقتصاد، الذي يترنح على وقع الأجندة الجيوسياسية للرئيس التركي، فضلا عن عوامل أخرى دخلت على الخط وأبرزها جائحة كورونا.
في الواقع يعتمد الاقتصاد التركي على أوروبا بشكل كبير، وبين 2002 و2018 شكّلت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 مصدر ثلثي الاستثمارات المباشرة الخارجية في تركيا، إلا أن الخلافات أسهمت في خلق مناخ من عدم الاستقرار لينعكس قلق المستثمرين تراجعا لسعر الليرة التي خسرت خُمس قيمتها أمام الدولار في العام الماضي.
وبعدما استبعد صهره براءت البيرق من وزارة المالية في نوفمبر الماضي، ضاعف أردوغان تلميحات حسن النية تجاه أوروبا، متعهداً خصوصاً بتعزيز دولة القانون.
وتشير إلكيه تويغور، الباحثة في المعهد الألماني للعلاقات الدولية والقضايا الأمنية، إلى أن أردوغان لكونه معزولاً “يبحث عن الأصدقاء حيث يمكن أن يجدهم”. وقالت إنه “لهذا الغرض، عقد أردوغان ووزير خارجيته الثلاثاء الماضي اجتماعات مع سفراء الدول الأوروبية”.
والصعوبات الاقتصادية هي الدافع الأساسي لتركيا في مقاربتها الجديدة، إلا أن انتصار بايدن يبدو أيضاً عاملاً حاسماً في هذا الإطار. وبينما أنشأ أردوغان علاقة شخصية مع ترامب سمحت لأنقرة بتفادي عقوبات مشددة على خلفية حملاتها العسكرية في سوريا وشرائها صواريخ روسية، تتوقع تركيا أن تكون الإدارة الجديدة أكثر برودةً تجاهها.
ويرى دبلوماسيون أوروبيون والعديد من المحللين في مراكز الأبحاث أن فوز بايدن غيّر المعطيات بالطبع وتركيا تتوقع أن تكون الإدارة الجديدة أقل مرونة. وتوضح سينيم آدار من مركز الدراسات التطبيقية حول تركيا في برلين أنه “يمكن تفسير” الدعوة إلى التقارب مع الاتحاد الأوروبي بـ”أنها وسيلة للاستعداد” لتولي بايدن مهامه.
إلا أنها ترى أن محاولات التهدئة التي تقوم بها أنقرة تفسر أيضا بـ”الضغط الداخلي المتصاعد” على أردوغان “بسبب المشاكل الاقتصادية التي فاقمها الوباء” و”تراجع في شعبية” حزب الحركة القومية حليف الرئيس التركي.
وعلى الرغم من أن المسؤولين الأتراك يواصلون تصريحاتهم الإيجابية تجاه أوروبا، يطرح المحللون تساؤلات حول التدابير الملموسة التي ستكون أنقرة على استعداد لاتخاذها في هذا الصدد.
ولتتمتع تركيا “بمصداقية لدى الاتحاد الأوروبي، على أنقرة تغيير المسار” في مجال احترام دولة القانون، كما ترى آدار، لأن سجن العديد من المعارضين وشخصيات المجتمع المدني شكّل مصدر قلق كبير بالنسبة إلى الغرب. وتعتبر تويغور أن هذه المسألة هي “العائق الحقيقي” أمام تحسين العلاقات، مضيفةً أن أوروبا تنتظر “دليل حسن نية” من جانب أردوغان.
ومن وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، تبقى تركيا شريكاً لا غنى عنه لاسيما بسبب موقعها الجغرافي ودورها في إدارة تدفق المهاجرين نحو أوروبا.
ويشير أحد الدبلوماسيين الأوربيين لوكالة الصحافة الفرنسية إلى أن “العديد من الدول الأوروبية تريد تهدئة الأوضاع، لأن التوتر لا يخدم مصالح كل من تركيا وأوروبا”، لكنه يضيف أن محاولات تركيا للتقارب تثير حاليا “العديد من الشكوك”.
العرب