عندما افتتح أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الصباح دورة برلمان بلاده الجديد، فإنه خاطب النواب بما يعرف أنه أصل المشكلة. قال “لم يعد هناك متسعٌ لهدر المزيد من الجهد والوقت والإمكانات في ترف الصراعات وتصفية الحسابات وافتعال الأزمات”.
وكان واضحاً أكثر بالقول “إن هذه السلوكيات أصبحت محل استياء وإحباط من المواطنين، وعقبة أمام أيّ إنجاز”.
والشيخ نواف كان على أشد الحق وضوحا. ذلك أن الصراعات وافتعال الأزمات جعلت التجربة البرلمانية في الكويت صداعا متواصلا لا تكفي لدرئه حبوب الأسبرين، بل مصدرا لصدوع أشد خطرا.
الكل يعرف الآن أن التجربة التي كان من المأمول لها أن تُصبح نموذجا للتحديث السياسي بالنسبة إلى كل دول الخليج، قدمت البرهان تلو الآخر، على أنها لا تصلح للتكرار في أيّ مكان.
وهناك أسباب جديرة بالاعتبار لذلك. أولها أن الكويت قرية صغيرة بالقياس إلى السعودية مثلا. بمعنى أن فكرة وجود (مجلس أمة) كانت فكرة مبالغا فيها بالمعنى السكاني.
الكويتيون من القلة العددية بحيث أنهم يعرفون بعضهم بعضا بالاسم والتفاصيل. وهو ما يعني أن مشاغلهم محدودة ويمكن حلها بوسائل أقل كلفة على الصعيد الوطني. وبالتأكيد فإنها ليست بحاجة إلى برلمان، ما أن يبدأ أعماله حتى تتوفر الأسباب لحله من جديد. فالمجلس الذي تأسس في العام 1963 عقد 19 دورة، ما جعل عمر الدورة الواحدة أقل من 3 سنوات.
الكويتيون، مجموعة أسر متلازمة. لا تستأنس غريبا، ولا تستوعب مهاجرين. بل وتنكر حقوق بعض مواطنيها أيضا (البدون). وعادة ما لا تتطلب قضايا الشؤون الأسرية برلمانا، ولا انتخابات ولا صداعا متواصلا.
فكرة “الديمقراطية” نفسها تبدو شيئا زائدا. لاسيما وأن المألوف في العلاقات الأسرية، والعشائرية، وما هو على مستواها، أن يتم حلها بتسويات داخلية تقوم على قيم مختلفة من قبيل التراضي والتسامح والمحبة والتنازلات الأخوية.
وهذه قيم أصيلة، وتحتل موقعا اعتباريا كبيرا في نفوس الناس، ليس في الكويت وحدها، بل كل مكان في دول الخليج الأخرى. ويستطيع العاقل أن يلاحظ أنها قيم لا علاقة لها بآليات عمل الديمقراطية.
الديمقراطية لا تعترف بـ”كبير” ولا بمكانة “شيخ” أو حتى “أمير”. الكل بالنسبة إليها سواء. وهذا غير مناسب بالنسبة إلى القيم الاجتماعية في الكويت، ولا حتى في غيرها.
لقد خلق الكويتيون مشكلة لأنفسهم عندما أنشأوا برلمانا على أساس قيم اجتماعية وسياسية لا تتناسب مع قيمهم وأعرافهم الخاصة. وكان ذلك أول الصداع وأول الصدع.
الديمقراطية ليست مجرد نظام للتصويت أو لانتخاب ممثلين. إنه لمن شديد التبسيط ألا يُنظر إلى الديمقراطية كنظام فوقي لنمط اقتصادي وآخر اجتماعي، وثالث سياسي.
إنها تركيب إجرائي وإداري قائم على أسس وركائز موضوعية هي التي تُملي شكل وطبيعة ووظائف وقيود البناء الذي يقف فوقها.
وعندما تنظر إلى طبيعة الأسس والركائز الاقتصادية والاجتماعية في دولة ما تزال مجرد دولة ريع، فسوف يكون من السهل على المرء أن يلاحظ حجم المفارقة، بل ضخامتها، بين واقعها الاقتصادي والاجتماعي وبين محاولاتها الديمقراطية.
هناك أسباب، طبعا، دفعت الكويت إلى اجتراح مفترق طريق “ديمقراطي” مع نفسها. ومنها الحاجة إلى تأكيد الذات، حيال أطماع الجوار. كما كان منها محاولة الظهور بمظهر المتميز عن هذا الجوار. ولكن النفس تظل هي النفس في النهاية. بمعنى أن القيم الفاعلة في المجتمع تظل هي القيم الحاكمة، وليس التزويقات التي يتم التبهرج بها للقول “نحن أفضل” أو “نحن شيء مختلف”.
الحكومة الكويتية الراهنة هي الـ38 منذ استقلال البلاد في العام 1962، وهو ما يعني أن معدل عمر الحكومة الواحدة يبلغ سنة ونصف. وهذا ما لا علاقة له بالاستقرار الذي تتطلبه الديمقراطية. إنها أقرب إلى الفوضى منها إلى الاستقرار.
ومنذ الجلسة الأولى للبرلمان الحالي بدأت المشادات الكلامية حول الاقتراع لانتخاب رئيس المجلس ونائبه وغيرهم. وهو ما قدم إشارة إلى أن الحكومة الجديدة تواجه معضلات مع برلمانها ليست أقل ضررا مما لحق بكل الحكومات السابقة. ويومها أبدى عدد من النواب اعتراضهم على التشكيلة الوزارية، وقالوا إنها “لم تقرأ نتائج الانتخابات البرلمانية جيدا”. بمعنى أنهم كانوا يريدون أن تكون لهم حصة فيما لم يسبق لهم أن تحاصصوا عليه.
“الديمقراطية” الكويتية، إذا كانت سمحت بتفكيك الصورة الاجتماعية، فإنها أنشأت فراغات سمحت بتسلل جماعات الإسلام السياسي أيضا. وهو ما شكل مفارقة إضافية في بلد ما كان يفترض به، لأجل استقراره، أن يقع في ورطة مثل هذه. على الأقل لأن مدارات “الهوية” التي يفرضها الإسلام السياسي، لا تتطابق مع مدارات الهوية الكويتية. وكذلك الحال، بالنسبة إلى تداعياتها السياسية.
صحيح أن الانتخابات الأخيرة أسفرت، عن حصول المحسوبين على المعارضة على 24 مقعدا من مجموع 50 مقعدا، وسجلت تراجع مكانة التيارات الدينية، وارتفاع عدد النواب الشباب ممن هم دون سن الخامسة والأربعين، ولكنها أسفرت عن شيئين آخرين أيضا، هما: غياب النساء، وظهور نمط إضافي من أشكال “المعارضة”، من دون أن يختفي النمط الإسلاموي.
غياب النساء، أكد الطبيعة الاجتماعية التي لا علاقة لها بالديمقراطية. وظهور معارضات جديدة أكد أن البلاد يتم تفكيكها من الداخل، بعد أن أدت معارضة التيارات الدينية إلى إرساء الشروخ.
تقديم طلبات الاستجواب لرئيس الوزراء أو لوزراء مقربين، دفع إلى حل البرلمان أكثر من مرة. وبينما الاستجواب أمر بديهي من بديهيات الديمقراطية، فانه ليس من بديهيات القيم العشائرية. إنه بالأحرى اعتداء عليها. هكذا “ضاعت الطاسة” بين نمطين غير متوافقين.
هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد، ومجلس شورى تقليدي، كان بوسعهما أن يكفيا البلاد شرور تجربة أظهرت العجز عن المساءلة، بمقدار ما أظهرت العجز عن ممارسة الديمقراطية.
وعندما خسرت النساء كل مقاعدهن في انتخابات ديسمبر الماضي، فقد بدا الأمر وكأنه انتقامٌ من حداثةٍ لم تكتمل أركانها، ولكنه قدم تجسيدا أكثر دقة لطبيعة المجتمع.
المتنافساتُ كنّ 28 امرأة من بين 326 مرشحا. ففاز الرجالُ، ليكونوا قوّامينَ عليهنّ وعلى مجلس الأمة.
والحال، فإن الديمقراطية تصبح معادلة خاسرة للاستقرار عندما لا تواكب الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلاد. أيّ بلاد.
هذه حقيقة لا تستطيع الكويت نكرانها الآن. ولهذا السبب فقد فشلت في أن تكون نموذجا صالحا للتكرار. السؤال الكبير هو: من يجرؤ على إعادة النظر؟
العرب