سوريا تذكرة عبور لروسيا نحو الشرق الأوسط

سوريا تذكرة عبور لروسيا نحو الشرق الأوسط

تمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر استراتيجية بلاده في الشرق الأوسط من إعادة رسم علاقات جيدة مع إسرائيل وإيران وخلق توازن في مسار العلاقات التركية – المصرية أو الإيرانية – السعودية، وكانت سوريا الورقة الرابحة في خطط موسكو لاستعادة مكانة أوسع في المنطقة.

موسكو – رسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صورة جديدة لبلاده في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتمكن رجل المخابرات السابق من إعادة ترميم بيته داخليا ثم الانطلاق نحو إقامة علاقات خارجية متوازنة ومتشابكة في آن.

ولا تبدو السياسات الخارجية الروسية توحي بأن هناك عودة إلى حقبة التوترات مع دول المنطقة إبان الاتحاد السوفييتي أو خلال فترة تولي بوريس يليسين الحكم قبل تنحيه لصالح بوتين.

استطاع الرئيس الروسي تحقيق اختراقات واسعة في علاقات بلاده على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي مع الدول العربية من بينها الخليجية. وتمكن بفضل حنكته وحضوره القوي من استغلال حالة التراخي الأميركي والتراجع في بعض الملفات الملحة من أجل تعزيز نفوذ روسيا بشكل واسع، فضلا عن وجود انسجام عربي وخليجي مع تلك الرغبة والهادفة إلى تنويع التوازنات والتحالفات مع القوى الكبرى.

وتسود حالة من عدم اليقين حول نهج إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن منطقة الشرق الأوسط، خاصة أنها لم تتضح بعد في ما يخص القضايا الساخنة على صعيد التهديدات الإيرانية والميليشيات التي تزداد خطورة بشكل واسع، بالإضافة إلى طبيعة التحالفات القائمة ومدى جدية الإدارة الجديدة في الحفاظ عليها وتطويرها.

وتقول مؤسسة “عرب دايجست” الاستشارية في تقرير حول الاستراتيجية الروسية في ضوء قراءة النهج الأميركي في المنطقة “إن روسيا عززت وبرعت في إقامة علاقات إيجابية وفعالة مع كل قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط والدول الأصغر بينهما”.

وتضيف المؤسسة الاستشارية أن روسيا استطاعت أن “توازن علاقات جيدة مع إسرائيل وإيران وتخلق توازنا جيدا في علاقاتها بكل من إيران والسعودية أو تركيا ومصر، وقد تمكنت من ذلك خلال لحظات الأزمة الشديدة”، على غرار أحداث الإطاحة بالرئيس الإخواني في مصر والحرب السورية والأزمة القطرية.

وتوضح أن تلك التحركات “كانت أكبر قوة لبوتين، حيث كانت له القدرة على التعامل بمرونة مع الجميع واستخراج الصفقات الاقتصادية واكتساب النفوذ الدبلوماسي مع كل تلك القوى”.

يرى الباحث صموئيل راماني، الزميل غير المقيم في منتدى الخليج الدولي، أن “سوريا كانت نقطة البداية للظهور الحديث لاستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط” باعتبار أن العلاقة بين البلدين كانت رمزا لمكانة موسكو الأوسع في المنطقة.

ويقول راماني، في حوار مطول مع مؤسسة “عرب دايجست”، إن “روسيا أظهرت للمنطقة بأسرها أنها قادرة على لعب دور حاسم في تغيير نتيجة الصراع في الشرق الأوسط، وقد أدى ذلك إلى رفع مكانة روسيا كقوة عظمى يمكنها أن تغير قواعد اللعبة في الإعداد العسكري”.

وشهدت العلاقات بين دمشق وموسكو توترات في تسعينات القرن الماضي بسبب نزاع ديون مستمر يعود إلى الحقبة السوفييتية، مما أدى إلى تقييد بعض الشراكات القديمة مع ليبيا واليمن وغيرها من البلدان، ويرى راماني أن تلك التوترات “كانت أحد أعراض فك الارتباط الأوسع مع الشرق الأوسط”.

لكن في العام 2005 وبعد ثورة الأرز في لبنان في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، وجد الرئيس السوري نفسه وحيدا وكان يكافح من أجل توطيد علاقات سوريا مع شركاء دوليين، ودخلت روسيا لإنقاذه باعتبارها القوة العظمى الوحيدة التي كانت مستعدة لذلك.

ويقول الباحث في هذا السياق إنها كانت “لحظة رمزية تميزت بعودة روسيا كقوة معادية للغرب وكقوة عظمى صاعدة في الشرق الأوسط”، مشيرا إلى أن تدخلها في سوريا خلال الحرب الأهلية جاء لتأكيد هذا الدور.

ويضيف أن روسيا حققت عددا من الفوائد من التدخل في سوريا كان الأول ماديا يتعلق بقاعدتين في البحر المتوسط هما طرطوس، التي كانت مجرد منشأة لإعادة الإمداد قبل الحرب وتم تحديثها الآن إلى الحد الذي يمكن الاحتفاظ فيها بالقاذفات النووية، وهناك قاعدة حميميم، وهي قاعدة جوية رئيسية.

ويرى الباحث السياسي أن فوائد التدخل الروسي كانت عميقة جدا، حيث استطاع بوتين حشد الروس حول هذا التدخل عبر الحديث عن انتشار التطرف في سوريا وحقيقة أنهم كانوا يواجهون داعش والتمرد والتطرف، وأظهر لهم أنه كان يتخذ إجراء حاسما ضد التهديد الإسلامي المتطرف العابر للحدود، وهو أكثر الأشياء التي يخشونه منذ الحروب الانفصالية في الشيشان.

وكانت روسيا، التي أنفقت 2 مليار دولار كحد أقصى سنويا في سوريا مقابل إنفاق التدخل العسكري الإيراني ما يصل إلى 30 مليار دولار على الأرض لدعم الأسد، في خط المواجهة متقدمة على إيران في معظم عقود إعادة الإعمار الأولية سواء في الفوسفات أو النفط أو الزراعة، ويرى الباحث أن هذا الأمر هو “الاستثنائي” في المعادلة.

ويقول راماني إن الأزمة السورية أظهرت بشكل كبير “تحديث الجيش الروسي، لأن إظهار أن الأسلحة الروسية تعمل بشكل فعال في سوريا سواء أنظمة الدفاع الصاروخي بانتسير-إس1 أو إس-300 أو الطائرات المقاتلة، سيجعل استغلالها ممكنا في جميع أنحاء الشرق الأوسط”، خاصة أن أطرافا مثل مصر أصبحت على استعداد لشراء المقاتلة سو-35 وتركيا تفكر في شراء تلك الطائرات.

لم يكن الملف الليبي بعيدا عن الصورة التي رسمها بوتين لإعادة نفوذ بلاده إلى المنطقة الأكثر سخونة في شمال أفريقيا، حيث كانت علاقات موسكو مع نظام العقيد الراحل معمر القذافي إيجابية إلى أبعد الحدود بعد نجاح الاثنين في تصفية ديون الحقبة السوفيتية وما تلاها.

عمل بوتين على تطوير علاقات إيجابية مع ليبيا خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وزار طرابلس في العام 2008، كما زار القذافي موسكو نهاية نفس العام وانخرطا في عدد من القضايا المهمة بين البلدين.

وكانت العلاقات الليبية الروسية في مرحلة مهمة بعد عرض القذافي على روسيا إقامة قاعدة بحرية مؤقتة في بنغازي، كما بدأ البناء عبر السكك الحديدية الروسية، وهو مشروع للبنية التحتية امتد عبر البلاد من بنغازي إلى سرت.

لكن العلاقات بين ليبيا وروسيا توترت في أعقاب إسقاط نظام القذافي عام 2011، ولم ينظر المجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل في تلك الفترة إلى روسيا، التي تحالفت مع القذافي، ثم دعمت منطقة حظر الطيران، على أنها موالية بما فيه الكفاية. خسرت موسكو العقود والأعمال لمدة خمس سنوات مما حد من تأثيرها في الملف الليبي.

ويرى الباحث راماني أن “التدخل العسكري كان ناجحا لأنه أعاد روسيا إلى اللعبة كمساهم رئيسي ويمكن القول إنها صاحبة مصلحة لا غنى عنها ويمكنها التعامل مع جميع الفصائل الرئيسية في ليبيا، حيث تمكنت من الاستفادة من ذلك بشكل فعال”.

وتفيد معلومات بتقديم مجموعة فاغنر الروسية دعما للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، فيما تتكتم روسيا بشكل رسمي حول أنشطة تلك المجموعات القتالية منذ أن أرسلتها إلى سوريا عام 2015.

وتنتشر عناصر فاغنر في العديد من الدول ضمن سياسة روسيا الجديدة المبنية على “الحرب الهجينة” في مناطق النزاع والتوتر.

ويقول راماني إن المجموعة القتالية الأكثر قربا من بوتين هي “جزء من الاستراتيجية الروسية الأوسع” في تعزيز النفوذ بليبيا.

ويضيف أنه من خلال مقابلاته مع مسؤولي وزارة الخارجية الروسية اتضح له أنهم “قلقون للغاية بشأن تكلفة السمعة لاستخدام المرتزقة في ليبيا، حيث كانت فاغنر عبارة عن مجموعة مختلطة من حيث الفعالية العسكرية”.

ويوضح أن المجموعة قامت بعمل جيد للغاية في سوريا داخل ميليشيا مدمجة وقدمت دعما لوجستيا وشاركت في المسؤولية الدفاعية وحراسة القواعد، مشيرا إلى أن هذا الأمر هو سبب تفوقها منذ عام 2017 إلى العام 2020.

ترتبط روسيا الآن بعلاقات استراتيجية وقوية مع كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتمكن بوتين من رسم علاقات متوازنة وأعاد تلك العلاقات إلى سابق عهدها بعد توترات الحرب السوفييتية في أفغانستان.

ويقول الباحث إن “التدخل الروسي في شبه الجزيرة العربية يعد أحد الجوانب الأكثر بروزا لعودة روسيا إلى الشرق الأوسط”.

ويشير الباحث إلى أن هناك علاقة إيجابية للغاية بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وبوتين برزت في لقائهما علنا بعد قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي أو حضور الاثنين في مونديال روسيا 2018 ثم الحديث عن صفقات الاستثمار بعد ذلك.

ويضيف أن “الروس معجبون بحقيقة أن الأمير محمد يحاول تغيير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي في السعودية، والحد من تأثير رجال الدين، لأن موسكو تنظر إلى رجال الدين كتهديد أمني لآسيا الوسطى وجناحها الجنوبي”.

أما في ما يخص العلاقات الروسية الإماراتية فإنه يرى أنها تقوم على مجموعة متكاملة من العوامل حيث تحولت تلك العلاقات إلى شراكة استراتيجية في يونيو 2018 على خلفية تعاون استثماري متنام (2 مليار دولار مع نية 7 مليارات في الاستثمارات المباشرة في المستقبل).

ويوضح أن هناك تعاونا في مكافحة الإرهاب وتآزرا فكريا حقيقيا بين روسيا والإمارات. ويشير الباحث عن التقارب في المواقف بشأن الأزمة السورية ودعم الإمارات لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وإعادة الإعمار ومعارضة قانون قيصر الأميركي.

ويعتبر أن شراكة الاستقرار في سوريا تتعزز بقوة بين أبوظبي وموسكو، حيث تتطلع الإمارات إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، فهي تنظر إلى نظام عالمي به العديد من مراكز القوة منذ التسعينات وروسيا مركز قوة مهم في ذلك النظام في رؤية الشيخ محمد بن زايد.

ويقول الباحث إن الإمارات تريد أن يكون لها تحالف وثيق مع الولايات المتحدة وأوروبا والتعامل مع الصين والهند وروسيا حتى تصبح قوة عالمية حقا، حيث لعبت روسيا دورا جيدا في ذلك.

العرب