ما قبل الهيمنة الأوروبية يساعد في فهم عالم ما بعد الهيمنة الأوروبية

ما قبل الهيمنة الأوروبية يساعد في فهم عالم ما بعد الهيمنة الأوروبية

تنتقد عالمة الاجتماع جانيت أبو لغد الدراسات التي تخلص إلى النزعة المركزية الأوروبية، مجادلة بأن النظام العالمي الأوروبي الحديث هو ببساطة استمرارية للنظام السابق المتمركز في آسيا.

عبدالستار غزالي
واشنطن – قال المعلق البرازيلي بيبي إسكوبار عن زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى موسكو التي استمرت يومين (20 و21 مارس) إن “القادة الصينيين والروس في موسكو كشفوا هذا الأسبوع عن التزامهم المشترك بإعادة تصميم النظام العالمي، وهو تعهد لم نشهده في 100 عام”.

وحددت عالمة الاجتماع الراحلة جانيت أبو لغد في دراستها “ما قبل الهيمنة الأوروبية: النظام العالمي بين 1250 و1350” النظام متعدد الأقطاب السائد عندما “تخلّف الغرب عن الشرق”.

وترى أن الغرب تقدم لأن “الشرق كان في حالة فوضى مؤقتة”. وقد نشهد تحولا تاريخيا مشابها، تجاوزه إحياء الكونفوشيوسية (احترام السلطة والتركيز على الانسجام الاجتماعي)، والتوازن المتأصل في الطاوية، والقوة الأرثوذكسية الشرقية الروحية. وخلص إسكوبار إلى أن هذه المعركة حضارية بالفعل.

ومُنحت جانيت أبو لغد في عام 1976 زمالة جون غوغنهايم التذكارية في علم الاجتماع. ونالت منحا حكومية وطنية مرموقة لبحوثها في مجالات الديموغرافيا وعلم الاجتماع والتخطيط الحضري والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العالمية والتوسع الحضري في الولايات المتحدة والشرق الأوسط والعالم الثالث.

أبولغد سلطت الضوء على الفترة الممتدة من 1250 إلى 1350 وحددت أنها شكلت نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم

واشتهرت خاصة بدراستها “قبل الهيمنة الأوروبية: النظام العالمي بين 1250 و1350″، حيث جادلت بأن نظام عالم ما قبل الحداثة الممتد عبر أوراسيا كان موجودا في القرن الثالث عشر، قبل تشكيل النظام العالمي الحديث الذي حدده إيمانويل والرشتاين.

وتحدّت فكرة وجود نظام عالمي واحد تعود أصوله إلى أوروبا في القرن السادس عشر. وجادلت بأن نظام العالم المبكر اعتمد على الروابط بين الأنظمة الفرعية الثلاثة: الصين (الأكثر تقدما)، والعالم العربي (مصر والشرق الأدنى)، وأوروبا الغربية. وتقول إن الطاعون الأسود لعب دورا مهما في تفكك هذا النظام العالمي.

وسلطت أبولغد الضوء على الفترة الممتدة من 1250 إلى 1350 وحددت أنها شكلت نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم، بينما كان الشرق الأوسط مركزيا في ربط الشرق بالغرب. وتقول في أطروحتها إنه لم تتواجد ضرورة تاريخية متأصلة حولت النظام لصالح الغرب بدلا من الشرق، أو أي ضرورة تاريخية متأصلة من شأنها أن تمنع الثقافات في المنطقة الشرقية من أن تصبح أسلاف نظام العالم الحديث.

إيمانويل والرشتاين
أبولغد تحاول إعادة رسم خارطة منطقة كبيرة في معارضتها للتقاليد الموقرة للتأريخ الأوروبي المركزي وتحدّيها للاستثنائية الأوروبية

تنتقد أبولغد نظرية النظام العالمي لإيمانويل والرشتاين، وتعتبرها ذات مركزية أوروبية. وأرادت تقديم مسح وصفي وتحليل للنظام الاقتصادي العالمي في الماضي وتحديد أسباب تدهوره.

وتبرر نظرية إيمانويل والرشتاين حول “النظام العالمي” أهمية أوروبا التاريخية المألوفة. لكن هذه الأهمية لم تكن سوى إيحائية خلال الفترات السابقة للقرن الخامس عشر.

وتوسّعت أبولغد في “النظام العالمي” للفترة الممتدة من 1250 إلى 1350 بعد الميلاد، وانتقدت والرشتاين ونزعته المركزية. وجادلت بأن “النظام العالمي” الأوروبي الحديث هو ببساطة استمرارية للنظام السابق المتمركز في آسيا.

وركزت أبولغد على الشبكات المالية والتجارية بين المناطق الرئيسية التي حددتها في نظامها، باتباع إطار نظري واعتماد مجموعة واسعة من الدراسات. وشملت هذه المناطق أوروبا وشرق المتوسط والخليج وغرب المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا والصين.

وفقا لبيري كايغيلس، وهو أستاذ دراسات التنمية العالمية في معهد هلسنكي لعلوم الاستدامة، قدمت جانيت أبو لغد مساهمة ملحوظة ونالت مكانة كلاسيكية حقيقية. وكان تأثير دراستها الفكري محوريا ودائما، بما أثر على ظهور منظور ما بعد المركزية الأوروبية الذي أعاد تفسير التطور الأصلي والتاريخي للنظام القديم جذريا.

وأشار كايغيلس إلى أن أبولغد خلصت إلى أن النظام العالمي للتجارة والإنتاج في القرن الثالث عشر قبل الهيمنة الأوروبية كان معقّدا. وشمل ذلك تكنولوجيا الشحن والملاحة، والتنظيم الاجتماعي للإنتاج والتسويق، والترتيبات المؤسسية لإدارة الأعمال التجارية، وآليات تجميع رأس المال وتقنيات تحقيق الدخل والتبادل. وشددت على أن “صعود الغرب سهّله اقتصاد عالمي موجود أعاد هيكلته”.

وكانت ممارسات “التجارة والسلب” الأوروبية “هي التي سببت تحولا أساسيا في النظام العالمي، الذي تطور واستمر على مدى خمسة قرون تقريبا”.

واعتبرت ساسكيا ساسين من جامعة كولومبيا أن ما كان مهما في تحليل أبولغد هو أن أوروبا أصبحت جزءا من نظام عالمي يهيمن عليه المغول. وكان الترابط بين أجزاء مختلفة من آسيا أقوى في بعض الحالات قبل 1250. وبينما شمل النظام العالمي بعض أجزاء من أوروبا كإسبانيا، كانت عناصره الأساسية بعيدة عن القارة.

وحدد نظام أبولغد العالمي أن ظهور المغول في القرن الثالث عشر وما بعده كان العامل المهيمن. ودعموا تجارة القوافل عبر آسيا التي خلقت شبكات مكنت أوروبا من دمج مساحة أكبر من التجارة الأوروبية – الآسيوية.

وأدخل التحليل أوروبا في جغرافيا آسيوية شاسعة يهيمن عليها المغول وسعى لإظهار أن الظروف التي تفسر صعود النظام العالمي الأوروبي اللاحق في القرن السادس عشر وما بعده، لم تكن هي الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى نظام عالمي.

ويقول يرىفيكتور ليبرمان من جامعة ميشيغان إن أبولغد سعت إلى إظهار أن أوروبا والشرق الأوسط والهند والصين خلقت نموذج المساواة الأساسية في التنمية التجارية ضمن نظام العصور الوسطى.

أبولغد خلصت إلى أن النظام العالمي للتجارة والإنتاج في القرن الثالث عشر قبل الهيمنة الأوروبية كان معقّدا

ويعني هذا أن أوروبا لم تتمتع بأي تفوق مؤسسي أو ثقافي، ولا احتكار للابتكار التكنولوجي أو الاقتصادي على المراكز الرئيسية الأخرى.

ونتج انتصار الغرب في النهاية عن فوضى ما بعد سنة 1400 في الشرق. ولو لم يحدث هذا الطارئ الذي لم يكن ممكنا التنبؤ به، لكان من الممكن أن تكون آسيا هي التي ولّدت رأسمالية مستقلة ومغيرة للعالم.

وتحاول أبولغد إعادة رسم خارطة منطقة كبيرة في معارضتها للتقاليد الموقرة للتأريخ الأوروبي المركزي وتحدّيها للاستثنائية الأوروبية.

ونظّمت تحليلها جغرافيا من أوروبا الغربية ومرورا بالشرق الأوسط وآسيا. ويناقش كل جزء ببصيرة ووضوح مثيرين للإعجاب السلع الأساسية، وأنظمة الإنتاج، وآليات التبادل المحلي والائتمان، والعلاقات البرية والبحرية مع المناطق الخارجية، والتسلسل الزمني للازدهار التجاري ثم الانحدار.

ويقول والرشتاين إن أبولغد كانت عالمة بارزة أورثت زادا كبيرا من العلوم الاجتماعية التاريخية. وكتب في أغسطس 2015 في مجلة بحوث النظم العالمية عن بحثها:

“لم يكن القصد منه أن يكون عرضا لتاريخ العالم على مدى 5 آلاف أو 10 آلاف عام. لقد ركزت على ما اعتبرته فترة تمهيدية رئيسية لـ’صعود الغرب’. كمنت طريقتها في الأساس في إثبات وجود نظام عالمي يتكون من عدد من الدوائر المتداخلة المتكافئة إلى حد ما في اقتصاداتها السياسية. وأمكنها إثبات الروابط العملية بين هذه الدوائر لكونها متداخلة، سواء عبر الترابط الاقتصادي والسياسي أو الانتشار الثقافي”.

الثغرات
أبولغد تنتقد نظرية النظام العالمي لإيمانويل والرشتاين، وتعتبرها ذات مركزية أوروبية

قال كايغيلس إن أي عمل بهذا النطاق الطموح لا يمكن أن يكون كليا وشاملا.

وتوجد لذلك ثغرات في تحليل أبولغد التي تجاهلت بحر البلطيق في مخطط دوائرها الثماني. وكانت دائرة البلطيق موجودة خلال ما يسمى بعصر “الفايكنغ”، واستمرت خلال عصبة المدن الهانزية.

وتجاوزت الباحثة حلبة البلطيق/دنيبر – فولغا/البحر الأسود وبحر قزوين التي ذكرتها سجلات المسافرين العرب والإسلاميين من العصور الوسطى.

كما أنها حذفت دائرة دول أفريقيا غرب الصحراء ودائرة البحر المتوسط، رغم أن هذا التبادل لعب دورا رئيسيا في تشكيل دول غرب القارة السمراء في فترة العصور الوسطى. وكان من الممكن أن تمتد دائرتها في المحيط الهندي على الساحل الأفريقي لتشمل جزيرة كلوة وسُفالة وموريشيوس. كما كان من الممكن أن تمتد دائرتها الثامنة (شرق آسيا وجنوبها الشرقي) لتشمل شبه الجزيرة الكورية واليابان.

وخلص كايغيلس إلى أن إدراج هذه الدوائر كان سيوفر تحليلا أكثر شمولا لـ”نظام العالم الأفرو – أوراسي” خلال العصور الوسطى.

العرب