توضح مؤشرات الاقتصاد الروسي في السنتين الأخيرتين أنه دخل مرحلة ركود طويلة، يمكن أن تأتي على جميع المنجزات التي حققها الرئيس فلاديمير بوتين منذ صعوده عام 2000. ويزداد الحديث عن أوجه تشابه اقتصادية وسياسية بين أوضاع روسيا الحالية، وبين السنوات التي سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي.
تواصل روسيا استعراض ترسانتها العسكرية والإعلان عن إنشاء قواعد عسكرية جديدة، بينما يترنح الاقتصاد الروسي تحت وقع العقوبات الغربية وتهاوي أسعار النفط. وتنذر الكلفة الباهظة لإعادة تسليح الجيش والأساطيل الروسية، والنتائج المتوقعة لمغامرات الكرملين في أوكرانيا وسوريا، بتحول روسيا إلى دولة مدججة بالسلاح على أرجل خشبية هشة، مما يذكر بمآل الاتحاد السوفياتي في سنواته الأخيرة.
ويقر صناع السياسة النقدية والمالية بأن البلاد تشهد أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث، وتتعمق الأزمة مع تراجع أسعار النفط إلى أقل من أربعين دولارا للبرميل، وزيادة تأثير العقوبات الغربية المفروضة على موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية وضم القرم. وأخيرا رسم المصرف المركزي الروسي صورة سوداوية للواقع الاقتصادي، حيث قدر انكماش الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 بنحو 4%، وتوقع استمرار الركود لثلاث سنوات على الأقل في ظل أسعار النفط المنخفضة. كما توقعت وزارة المالية الروسية ارتفاع عجز الموازنة إلى أكثر من 5.2% إذا بلغ سعر النفط أربعين دولارا للبرميل، وقالت إن موارد صندوق الاحتياط ستنفد قبل نهاية العام 2016.
“لعبت عوامل عدة دورا في نهوض الاقتصاد الروسي منذ اعتلاء بوتين السلطة عام 2000، ففي العام الأول نما الاقتصاد بنحو 10% جراء التعافي بعد أزمة أغسطس/آب 1998 الاقتصادية العاصفة. وساهم تعافي أسعار النفط حتى العام 2008 في خدمة أهداف بوتين”
اللافت أن الأزمة لم تنعكس حتى الآن على شعبية الرئيس بوتين، رغم ارتفاع التضخمحتى بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى نحو 12%، وتراجع الدخل الحقيقي للمواطنين بنحو 10% حتى نهاية الربع الثالث من العام المنصرم للمرة الأولى منذ العام 1999، وازدياد أعداد الفقراء إلى أعلى مستوى منذ تسعة أعوام حسب هيئة الإحصاء الروسية التي أكدت أن 22 مليون روسي يعيشون تحت خط الفقر بسبب ارتفاع نسب التضخم، وتعويم سعر الروبل، وتقليص حجم الزيادات في المعاشات للموظفين الحكوميين والمتقاعدين أو تجميدها، ووقف بعض برامج الدعم الحكومي للمحتاجين.
حقيقة الطفرة الاقتصادية الروسية
كشفت الأزمة المالية في 2008-2009 وما تلاها عن المبالغة في تصوير قوة روسيا الاقتصادية واعتبارها في مأمن من تبعات التأثيرات الاقتصادية الخارجية. فمع تراجع أسعار النفط هوى الروبل، وتقلص الاقتصاد الروسي بمعدلات هي الأعلى عالميا، وعلى عكس البلدان الأخرى فقد تأخر تعافيه كثيرا.
وبنى الرئيس بوتين إستراتيجيته الاقتصادية على تحويل روسيا إلى قوة عظمى في مجال الطاقة، إضافة إلى دعم الاحتكارات والمؤسسات الحكومية وبناء شركات قابضة عبر عمليات دمج في القطاعات الرئيسية واعتبارها المحرك الرئيسي للنمو.
ولعبت عوامل عدة دورا في نهوض الاقتصاد الروسي منذ اعتلاء بوتين السلطة عام 2000، ففي العام الأول نما الاقتصاد بنحو 10% جراء التعافي بعد أزمة أغسطس/آب 1998 الاقتصادية العاصفة. وساهم تعافي أسعار النفط حتى عام 2008 في خدمة أهداف بوتين وتحقيق نمو اقتصادي كبير في السنوات التالية، بلغ متوسطه نحو 7%. كما أسهم تحسين مناخ الأعمال مقارنة بعهد سلفه بوريس يلتسين، ومحاربة الفساد وشن حرب على طواغيت المال، في تحسين صورة روسيا الخارجية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية في فترتي حكم بوتين الأولى والثانية. ومن المهم الإشارة إلى أن روسيا استطاعت سداد معظم ديونها الخارجية، وزادت من احتياطيها من العملات الأجنبية إلى نحو ستمئة مليار دولار في صيف العام 2008.
فشل نموذج بوتين للنمو الاقتصادي
وأسهم تواري بوتين خلف صديقه ديمتري مدفيدف ضمن لعبة تبادل كرسي الرئاسة أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية، إلى خروج “أبو الأمة” دون خسارة في شعبيته، أو تحمل مسؤولية الفشل الاقتصادي.
“بدا واضحا منذ بداية ولاية بوتين الثالثة عام 2012 أن الاقتصاد الروسي استنفد جميع فرص النمو الممكنة وفق النموذج المبني منذ مطلع الألفية الحالية، وأن العودة إلى معدلات نمو مرتفعة كما كان الحال قبل الأزمة العالمية 2008 بات ضربا من الخيال”
وكشفت مؤشرات الاقتصاد الروسي في العام 2013 -وهو العام الذي سبق ضم القرم والتدخل في أوكرانيا- أن النمو لم يتجاوز 1.3% رغم صرف أكثر من خمسين مليار دولار على مشروعات عملاقة استعدادا لأولمبياد سوتشي الشتوي في 2014. لكن ربما الأهم، أن مؤشرات النمو الضعيفة جاءت في ظل أسعار مرتفعة نسبيا للنفط والغاز وعدم وجود أي عقوبات غربية على المؤسسات والشركات الروسية التي كانت تملك خطا ائتمانيا مباشرا مع المصارف الأوروبية والأميركية.
أحلام بوتين الإمبراطورية
تلقف بوتين لهفة العالم لكسر الأحادية القطبية عقب انتهاء الحرب الباردة، ومع تزايد قوة بلاده السياسية والاقتصادية رأى أن الظروف باتت مواتية لتقوية النفوذ الروسي في الساحة السوفياتية السابقة، فاستغل الارتباك الأميركي وخاض أولى مغامراته العسكرية ضد جورجيا في أغسطس/آب 2008 بحجة دعم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
وأحدثت الحرب صدمة في سوق المال الروسية وتسببت في تراجع سعر الروبل وتزايد هجرة رؤوس الأموال، وكان الأثر مضاعفا مع وصول الأزمة المالية العالمية إلى روسيا بعد انهيار مصرف ليمان براذرز إثرأزمة الرهن العقاري. لكن النتائج المخيبة لأداء الجيش الروسي كانت أشد وقعا وتأثيرا على المدى البعيد، وبناء عليه أقرت روسيا أضخم برنامج تسليح بقيمة تتجاوز سبعمئة مليار دولار لعشرة أعوام، وارتفعت النفقات العسكرية إلى نحو ربع الموازنة على حساب التعليم والصحة والاستثمار في مشروعات البنية التحتية.
“يذهب فريق واسع من الخبراء إلى أن الكرملين اختار سياسة الهروب إلى الأمام في مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية الداخلية الملحة، وأن ضم القرم وأحداث شرق أوكرانيا -ولاحقا سوريا- تصب في هذا الاتجاه”
وبينما تروج وسائل الإعلام التابعة للكرملين أن بوتين يسعى إلى إعادة الأمجاد القيصرية والسوفياتية لروسيا، يذهب فريق واسع من الخبراء إلى أن الكرملين اختار سياسة الهروب إلى الأمام في مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية الداخلية الملحة، وأن ضم القرم وأحداث شرق أوكرانيا -ولاحقا سوريا- تصب في هذا الاتجاه. ومهما كانت دوافع التدخل الروسي في أوكرانيا وسوريا، فإن الكرملين ارتكب ثلاثة أخطاء كبيرة:
– الأول، عدم تقدير مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي لن تسمح بتغيير الخريطة السياسية في القارة العجوز بعد ضم القرم والتدخل في شرق أوكرانيا، وكذلك عدم مراعاة مصالح الأطراف المعنية بمآل الأزمة السورية، ناهيك عن عدم وجود حد فاصل يمنع انزلاق روسيا في “تجربة أفغانية” جديدة في شرق المتوسط.
– الثاني، التعويل الكبير على قوة الاقتصاد الروسي وإمكانية صموده في وجه العقوبات الغربية، واستعداده لمواجهة تراجع أسعار الطاقة والخامات لفترة طويلة.
– الثالث، المراهنة على توجه روسيا شرقا بعلاقات مع الصين والهند، لكسر تأثير العقوبات الغربية.
كعب أخيل بوتين
استقبلت السلطات الروسية -باستخفاف واضح- العقوبات الغربية المفروضة على قطاعي المال والطاقة على خلفية الأزمة الأوكرانية، وردت بصلف على العقوبات ومنعت دخول البضائع الأميركية والأوروبية.
وحسب تقديرات حكومية فإن العقوبات كلفت الاقتصاد الروسي ما يزيد عن مئتي مليار دولار، إضافة إلى ارتفاع التضخم وتهاوي العملة الوطنية وزيادة هروب رأس المال الأجنبي، فضلا عن أنها تنذر بتخلف روسيا في المجال التقني اللازم لتطوير صناعاتها.
“التأخر في إطلاق الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، وتراجع أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها في 11 عاما، والتوقعات ببقائها طويلا دون أربعين دولارا.. كل ذلك سيسهم في القضاء على أحلام بوتين الإمبراطورية”
وواضح أن العامل الاقتصادي كان سببا في ارتفاع شعبية بوتين ومحفزا لإطلاق خياله في إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي السابق، لكن التأخر في إطلاق الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية وتراجع أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها في 11 عاما، والتوقعات ببقائها طويلا دون أربعين دولارا.. كل ذلك سيسهم في القضاء على أحلام بوتين الإمبراطورية.
وقد يجعل الانهيار الاقتصادي الاتحاد الروسي في مواجهة مصير مشابه لما حصل مع الإمبراطورية السوفياتية بداية تسعينيات القرن الماضي. وربما كان الأجدى بالرئيس بوتين استغلال شعبيته الجارفة من أجل إطلاق إصلاحات سياسية واسعة ومكافحة الفساد بشكل جدي، إضافة إلى إصلاح النظام القضائي.
واقتصاديا فإن المطلوب هو الكف عن سياسة التجريب السوفياتية في التعامل مع مختلف القطاعات، وفتح المجال للمنافسة وكسر الاحتكارات الحكومية الكبرى، وتطوير قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وبناء نموذج يعتمد على دعم الصناعات وتوطينها في روسيا للحد من تبعية الاقتصاد المطلقة لصادرات الطاقة والخامات، والتخفيف من برامج الدعم الاجتماعي الواسعة.
وبداهة، فإن بلدا لا يستأثر بأكثر من 3% من حجم الاقتصاد العالمي لا يمكن أن ينافس على دور الصدارة في العالم، كما أن الانطلاق من مبدأ أن الأسطول والجيش هما صديقا روسيا الوحيدان، ليس صحيحا في معايير عالمنا المعاصر، فأسباب انهيار الدول تكمن في طبيعة بنيانها، وصمودها رهن بأوضاعها الصلبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لا بقدرة طائراتها على إفراغ حمولتها من الصواريخ والقذائف، ولا بقدرتها على إطلاق صواريخ عابرة للقارات.
سامر إلياس
الجزيرة نت