واليوم، نسمع ونقرأ يومياً من يسبّ العروبة ويشتم العرب، ويطلق لسانه بأحكام جائرة ضد تواريخهم ومواريثهم وأعرافهم ورموزهم، بل ويستهين بهم وبهويتهم وثقافتهم وانتمائهم، وكأنهم غير مؤهلين للحياة والمستقبل، بل وأصبح الغلاة من الشعوبيين يمارسون التدليس والتشويه، وصولاً إلى التنكيل الفظيع، من دون أن نجد من يردّ عليهم، إذ جعلوا هذا المصطلح مكروها، ويسمون كل من يعالجه بأقبح الصفات.. صحيح أن حال العرب والعروبة اليوم لا يسرّ أحداً، ولكن، لا يمكن سحب الحاضر نحو الماضي، ووصم التاريخ العربي بأبشع الصفات، من دون فهم أمم أخرى، تمتلك تواريخ شائنة، ومواريث سوداء مضنية، ومحطات مظلمة.. لا أحد يقارنها بما حظيت به تواريخنا، وما قدمته مواريثنا العربية من إبداعاتٍ حضاريةٍ عليا، وزاخرة للحضارة البشرية، فضلا عن دور العرب في اللغة والمناهج والعلوم والفنون والفلسفة والبلدانيات وإثراء المعرفة البشرية.. ناهيكم عن رحاب التعايشات الاجتماعية والمنجزات الثقافية من صناعها المتنوعين، سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو من الصابئة المندائيين، وسواء كان بعضهم من هذا المذهب أو ذاك.
حصوننا تتآكل من دواخلها
عندما أتأمل وأقارن، أجد أن المستشرقين القدماء أرحم على العرب من عرب اليوم أنفسهم، خصوصا في الإشادة بدور العرب الحضاري في تاريخ البشرية، كما أجد حتى الشعوبيين الأوائل قبل ألف سنة، ما كان لديهم كل هذا الحقد على العرب والأرومة العربية من عرب اليوم أنفسهم، وإذا كان الشعوبيون الأوائل من الأعجام، فإن الشعوبيين، اليوم، من أبناء الجلدة العربية، إذ يندهش المرء، اليوم، من حالة الانفصام النفسي والفكري التي يتملكها من يسمّون أنفسهم عرباً، وقد غدوا ضد عروبتهم أعداء ألدّاء جرّاء مواقف سياسية، أو ممارسات سلطوية، أو شعارات طائفية، أو ارتباطات خفية.. تساعدهم بالتأكيد قوى خارجية، يجدون عندها الملاذ الآمن. ليس مستغرباً أن الشعوبية الجديدة جاءت في أثواب بائسة عند أطياف غير عربية، تعيش بين ظهرانينا، سواء كانت من قوميات وأعراق مختلفة، لم يكن آباؤهم يحملون، على امتداد تاريخهم، مثل هذه النزعة القاتلة. ولكن؟
من أين جاءت كل هذه الأحقاد ونوازع الكراهية لدى الأجيال المتأخرة من العرب أنفسهم؟ ولماذا يخلطون عن جهلٍ وقلة معرفةٍ بين العروبة والقومية العربية؟ علماً أن العروبة قديمة جداً، وهي تتمثل بتراث أمة لغة الضاد، مع تواريخ عضوية مشتركة لمجتمعاتنا، فضلاً عن ثقافةٍ موحدّةٍ، لم تزل حيةً ترزق، مع أسلوب حياةٍ متعايشٍ مع الآخرين منذ مئات السنين، لجميع سكان هذه المنظومة العربية. ولكن، أن تجد أن ذلك كله بيع في سوق نخاسةٍ سياسيةٍ، ومؤدلجاتٍ عقيمةٍ وثقافةٍ معولمةٍ ومتوحشةٍ، زرعتها أميركا بالذات في ثقافتنا المعاصرة، فهذا وذاك لا يمكن قبوله أبداً، خصوصاً وأن العربية أساس العروبة، لم تزل كل موجوداتها اللغوية والثقافية والاجتماعية سارية المفعول، بقوة وحيوية لدى جميع الأطياف، حتى من غير العربية.
بين إرث عريق وحداثة واهية
وعليه، كيف يمكننا تفسير كل الانحيازات لشتم العروبة وذم العرب، والتنكيل بتواريخهم وإرثهم الحضاري، تنكيلاً قاسياً؟ لا يمكن فهم هذا إلا إذا كانت مجتمعاتنا لم تزل بعد تعيش حياة العصور الوسطى! ثم كيف يمكننا إدراك كل التجنّيات التي تمارس ثقافياً وسياسياً وإعلامياً على أيدي أناسٍ يعدّون أنفسهم عرباً (بعضهم يتفاخر بأنه من قبيلة معينة أو عشيرة محددة)؟ كيف يمكننا فهم محاولاتهم بناء جدار سامق وسميك بين الإرث العريق وحداثتهم المعولمة الواهية؟ وكيف يركض هؤلاء وراء جيلٍ جديدٍ من المستشرقين الجدد الذين هم أضعف قدرة وأوهن معرفة وأحطّ أخلاقاً من أولئك الآباء الذين أنصفوا العرب والعروبة، وتوضيحهم دور العرب الحضاري في بناء التاريخ البشري.. إذ توقفنا عند علماء أمناء، أمثال غوستاف لوبون (صاحب مجلد حضارة العرب) وجورج سارتون، وهاملتون كب، وألبرت حوراني، وأندريه ميكال (صاحب الجغرافية الإنسانية عند العرب)، ومينوريسكي، ونيكلسون (صاحب تاريخ الأدب العربي) وسيغريد هونكه (صاحبة “شمس العرب تسطع على الغرب”) وروبرت مونتران وديفيد جاكسون (صاحب قول إن صلاح الدين أعظم قائد في التاريخ)، وغيرهم كثيرون ممن حققوا ودرسوا تراث العرب الكبير في كل العلوم والآداب والفنون على امتداد عصورٍ مضت.. ليأتي عرب من الشعوبيين اليوم، وهم ينكرون العرب والعروبة لأسباب متنوعة، بل ويغالون جداً في ذم العرب والعروبة، فلا يمكن أبداً أن ينحصر العرب، وأن تتلخص العروبة بمكان صحراوي، ربما كان أهله من الأعراب الأجلاف والبدو الجهلاء. ولا يمكن أن تُختزل في بعض المستبدين الجناة في سورية والعراق وغيرهما.
الشعوبية الجديدة
الشعوبية الجديدة التي تطلّ برأسها اليوم فاقدة لكل القيم والأخلاق، بحيث تنكر تاريخنا الحضاري، وتجهل الوازع المعرفي، وتغلب انتماءاتها السياسية والطائفية والأيديولوجية على أصولها ومواريثها، وتدعو الآخرين من أبناء جنسها إلى انتزاع أنفسهم من قيمهم وأخلاقياتهم وهويتهم، وتبشر بأمراض سايكولوجية واجتماعية، وتقف ممثلةً لدول ومؤسسات ومرجعيات وكيانات، تعمل ليل نهار على تشويه منظومتنا في الحاضر والمستقبل. لا أقول أن يتجرّد هؤلاء من انتماءاتهم الوطنية، ولا الدينية، ولا السياسية.. ولكن، عليهم ألّا يغلبوا الانتماءات الطائفية والحزبية والانقسامية على العروبة والثقافة العربية. وحتى إن خالفوا العروبة اختلافات كبيرة، فعليهم ألّا يشتموها، وكأنها التي كانت وراء مصائبهم وكوارثهم، ذلك أن انفصامهم عنها سيضعف هويتهم، وسيمزق نسيجهم ويميت ثقافتهم، علماً أن الثقافة العربية هي من أزخر ثقافات المنطقة كلها.
كانت الشعوبية الأولى قد نضجت منذ ألف سنة في كل من العراق شرقاً والأندلس غرباً، نتيجة ما استقبله البلدان من غرباء، وما استقطبه كلاهما من نازحين، دعوا بالأعاجم، والذين غدوا عرباً بعد مرور جيلٍ، أو جيلين، باكتساب الثقافة العربية، وهي عنوان العروبة، وأثروا الحياة الإنسانية من خلالها بتخصصاتهم وإبداعاتهم، لكنهم احتقروا العرب، وحطّوا من شأنهم. واليوم، يعيد الشعوبيون الجدد الأسطوانة نفسها، ليجعلوا العرب مجموعة غزاة جهلة، لا نفع فيهم، ولا خير منهم، وإذا كان الأولون قد أرادوا إحياء ثقافاتٍ أخرى على حساب الثقافة العربية، فاليوم يريدون استيراد ثقافاتٍ هجينة على حساب ثقافتنا. ما جرى قبل ألف عام يجري اليوم. ولكن، من أناسٍ عرب، يتوزعون في العراق ولبنان وسورية والجزائر والمغرب، مع أبناء جالياتٍ متنوعة الأصول في شتات العالم، كما تبرز أسماء في مصر.
لو كانت مواقفهم نقديةً وعلميةً ومنهجيةً تخصصيةً في إبراز مثالب العرب وأخطائهم، لكان ذلك مقبولاً. ولكن، أن ينكّلوا بالعروبة من دون فهمٍ لها، ويجعلوها رديفاً للقومية والفكر القومي، فهذا غير مقبول. إن عرب اليوم شيء في أوضاعهم المزرية والمتخلفة، والعروبة شيء آخر. يُنكرون على العرب حتى اكتشافاتهم وإبداعاتهم في الكيمياء والجبر والرياضيات والفلك والاصطرلابات والبلدانيات والفلسفة وعلم الكلام واللغة والعمران البشري والأخلاق والتربية والأدب. وينكرون البيمارستنات والمؤسسات الخيرية والوقفية والتدوينات وعلم الأخبار.. إلخ، وتلك جنايةٌ لا تغتفر في التاريخ، وهم ينسبون كل العلوم إلى علماء غير عرب، من دون أن يعلموا من هو الكندي وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل والمتنبي والمعرّي، وقوافل من الأجيال التي تعاملت مع العربية، لا مع أية لغةٍ أخرى.
عنوان حضاري وثقافي
ليست العروبة مذهباً دينياً، ولا أيديولوجية فكرية، ولا اتجاهاً سياسياً، ولا نزعة شوفينية كما يفسرونها، بل هي هوية لمئات الملايين من البشر، وهي إطار تعايش رحب، يجمع بين دفتيه أدياناً مختلفة، ومذاهب متعددة، وأصولاً أنثربولوجية متنوعة، عنوانها العربية، بأساليب مشتركة. وقد تأكّدت بنفسي لدى أقوام متنوعين في بلاد المهجر، إذ تسهّل عليهم العربية أعمالهم والعيش والتعامل والبيع والشراء وسماع الأغاني العربية، فالعربية أكبر مما يتصوره الآخرون الذين يقفون منها موقفاً شعوبياً.
لم يكن كل العرب أعراباً أو بدوا أجلافاً منذ أزمنة طوال، وقد غاب البدو الأجلاف من حياتنا اليوم. ولكن، سادت الرداءة في الأخلاق، وانتشر التحلل من القيم مع انهيار النظم الاجتماعية، وفسدت الطباع، وندرت أفعال الخير وعمّ الأشرار وماتت الضمائر وكثر الغدر.. إلخ من المنكرات والقبائح والأوبئة السياسية والاجتماعية، مع ندرة الأفق الواسع والتفكير العقلاني.
ووراء استفحال كل الانحرافات والتناقضات عوامل خارجية وداخلية، يتقدمها استفحال الطائفية والانحراف عن النزعة الوطنية التي غدت مكروهة، مع ضياع الروح العروبية التي غدت بمثابة جريمة، فالطائفية اكتسحت الهوية العروبية، وسحقتها سحقاً. وكان هناك دور الثقافات الهجينة التي تقوم بصناعتها مؤسساتٌ ومراكز بحوثٍ، تعمل نشرياتها على الطعن في العروبة، وإتاحة المجال لاستغلال الإسلاميات مذهبياً وطائفياً، بحجة الوقوف مع الأقليات، لتأجيج مشاعرها ضد الأكثريات، أو قلبها بالعكس، لكي تستأصل الأكثريات الأقليات.
أساء القوميون توظيفهم العروبة، وجعلها أداة سياسيةً وأيديولوجية للقهر والاضطهاد، مع سوء ممارسات السلطات الحاكمة العربية، بجعل العروبة ثوباً أيديولوجياً، يمارسون باسمها أبشع الممارسات. وقد كان للجهل والأمية دورهما في غياب الفرص الديمقراطية الحقيقية. وقد لعب الإعلام والتربية في كل من الدولة والمجتمع مجرّدين من أدوات الوعي، وانعدام فرص التسامح والقناعة مع زرع الكراهية وإشاعة روح الانقسام، فكان أن سحقت أدوات، وأميتت تطلعات، وأشيعت أحقاد بين الناس، مهما كان دينهم، أو كانت مذاهبهم أو أعراقهم وأجناسهم .. وكما أساءت التحزبات القومية في حياتنا، أساءت التحزبات الدينية والطائفية، والتي جرّدت المناخ الفكري العربي من وطنيته وعروبيته، وخصوصا بعد العام 1979، إذ تفرّق الجميع في كتلٍ وجماعاتٍ وحركاتٍ ماضويةٍ ومذهبيةٍ وطائفيةٍ تراجعيةٍ، وكلها تريد السلطة على حساب انهيار الوطن ونفي المواطنة أولاً، والتنكيل بالعروبة ثانياً، وإسقاط التقدم ثالثاً.
وأخيراً، أحدثت التناقضات الاجتماعية والثقافية التي ازدحمت، اليوم، في عالمٍ جديدٍ، طغت عليه وسائل العولمة الجديدة وأدواتها، حالاتٍ جديدةً ومستهجنةً وغير مألوفة في حياتنا العربية، بأدوات ووسائل لم تحكم العمل بها مؤسساتنا الثقافية والإعلامية العربية، فكان ذلك بمثابة تحدياتٍ صعبة جداً، لم تستطع مجتمعاتنا مجابهتها بالاستجابة لها، على غرار أمم وشعوب أخرى. طغيان الفكر الماضوي وغياب فرص الانفتاح على تجارب الشعوب الأخرى، بدرس ثقافاتها والاستفادة منها في إحداث استجابات عقلانية، في ظل الحفاظ على الهويات الوطنية والعربية، وفرص التعايش الثقافي في إطار البلد الواحد، سيُحدث استنارةً جديدةً في مجتمعاتنا التي تبتعد وتغترب، يوماً بعد آخر، عن قيمها الجميلة، وستبتعد حتماً عن توافه الأمور التي تشغلها اليوم. تتمتع مجتمعات أخرى متعددة الثقافات ومتنوعة الأعراق والأديان والملل، اليوم، بتعايشات رائعة وانسجامات قوية في ظل هوية واحدةٍ، وفي ظل ديمقراطياتٍ متطورة. وعلى كل الناس أن تعلم أن العروبة لم يوجِدها جمال عبد الناصر ولا ميشيل عفلق ولا معمر القذافي ولا حافظ الأسد ولا صدام حسين .. ولا غيرهم.
على مجتمعاتنا العربية الخروج من الأفق الضيّق الذي تعيش عليه اليوم، وخصوصاً في تصنيف البعد الحضاري والتاريخي، وهو بعدٌ لا يتخلى عنه باقي الأمم والشعوب.. فهل سمعنا يوماً أن يقوم أي شعب بالتنكيل بقوميته أو تراثه أو ثقافته أو تاريخه، ويهمش دوره على حساب إعلائه شأن الآخرين؟ الشعوبية ظاهرة تاريخية مضادة لظاهرةٍ أخرى، تتمثل بالعروبة. ولكن الفرق كبير بين الظاهرتين بين شعوبيةٍ مرحليةٍ لا تقوى على الصمود أبداً أمام ظاهرة العروبة التي من سماتها الديمومة والبقاء ومواجهة التحديات. ولكن، علينا زرع الوعي بما يحدث اليوم بظهور شعوبياتٍ متعددةٍ، مصيرها الفناء والزوال.