الأمر لا يزال غير متعلق بالإسلام، حتى لو استمر ادعاء وسائل الإعلام، والمسلحين الذين يهاجمون أهدافًا غربية بذلك. في الواقع، لم يكن الأمر متعلقًا بالإسلام يومًا. ولكن خلط السياسة مع الدين هو أمر مهم بالنسبة للكثيرين؛ والسبب جزئيًا هو أن ذلك شيء مريح.
أولًا، دعونا نكون واضحين بشأن بعض النقاط. لقد وضع الإسلام نظامًا لإلغاء الرق منذ أكثر من 1200 سنة قبل أن تصل تجارة الرقيق إلى ذروتها في العالم الغربي.
فقد كان موضوع تحرير العبيد، الذين كانت تملكهم القبائل العربية الوثنية، موضوعًا متكررًا في القرآن الكريم، ومرتبطًا دائمًا بأبسط علامات التقوى والفضيلة (القرآن، سورة 9، آية 60).
ومن المؤسف أن نضطر إلى التذكير بذلك بانتظام، وذلك بفضل الدعاية المستمرة المعادية للإسلام في العديد من البلدان الغربية. كما أعطى السلوك الغريب والهمجي من ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مزيدًا من الزخم إلى تلك الأحكام المسبقة والدعاية المضادة.
ثانيًا، كرس الإسلام مفهوم المساواة بين الجنسين، في القرآن وسنة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) (القرآن، سورة 33، آية 35).
ثالثًا، قدسية الحياة هي أمر بالغ الأهمية في الإسلام لدرجة أن من قتل نفسًا فكانما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعًا (سورة 5، آية 32).
ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق بالإسلام. ولكنه يتعلق بلماذا يصبح الإسلام هو موضوع المناقشة في الوقت الذي يجب علينا فيه معالجة الجذور الحقيقية للعنف.
عندما دخل الإسلام إلى الجزيرة العربية منذ عدة قرون، كان، ولا يزال، دينًا ثوريًا. كما أنه كان ولا يزال دينًا راديكاليًا، وكانت تلك الراديكالية، إذا ما نظرنا إليها بموضوعية، من شأنها أن تعتبر تحديًا حقيقيًا للطبقية في المجتمع، ولعدم المساواة في جميع أشكالها، والأهم من ذلك، للرأسمالية وما تتسم به من الشراهة والجشع والقسوة .
ولكن، الكثيرون يلجأون إلى جعل قضايا لا تتعلق بالأمر هي جوهر النقاش، لتجنب مناقشة عقلانية بشأن القضايا الحقيقية؛ حيث يتم مناقشة الإسلام عند مناقشة قضية داعش، والصراعات القبلية والطائفية النيجيرية، والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، وقضايا الهجرة في أوروبا وغيرها.
وبينما يحدث الكثير من العنف في جميع أنحاء العالم باسم المسيحية واليهودية بل وحتى باسم البوذية كما حدث في بورما وسريلانكا، إلا أننا نادرًا ما نجد وسائل الإعلام تصم طائفة بأكملها، بينما يعتبر جميع المسلمين مسؤولين بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى لو كان المجرم الذي تصادف أنه كان مسلمًا قد نفذ جريمته وهو في حالة من الهياج العنيف. نعم، ربما لا يزال يقال بأنه “حالة مفردة”، ولكن يمكن للمرء أن يكون شبه متأكد من أن المسلمين والإسلام سيصبحون بطريقة أو بأخرى موضوع المناقشة في وسائل الإعلام بعد ذلك.
وفي محاولة يائسة لدرء تلك الاتهامات، بذل كثير من المسلمين، بقيادة عدد من المثقفين والصحفيين ذوي المصداقية، منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، جهدًا مضادًا لنفي العنف عن الإسلام ومحاربة الصورة النمطية المستمرة. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الجهود إلى شكل مستمر من الاعتذارات الجماعية نيابة عن الإسلام.
فعندما يتفاعل مسلم في البرازيل أو ليبيا مع أزمة الرهائن في سيدني، بأستراليا، ويدين العنف باسم الإسلام، في محاولة للدفاع عن الإسلام والتبرؤ من التشدد، وهلم جرا، يصبح السؤال هو، لماذا؟ لماذا جعلت وسائل الإعلام المسلمين يشعرون بأنهم مسؤولون عن أي شيء ينفذ باسم الإسلام، حتى لو كان من قبل شخص مختل؟ ولماذا لا يخضع أتباع الديانات الأخرى لنفس المعايير؟ لماذا لا يطلب من المسيحيين في السويد شرح والاعتذار عن سلوك جيش الرب في أوغندا، ولماذا لا يضطر اليهودي الأرجنتيني لشرح العنف المنهجي اليومي والإرهاب الذي يقوم به المتطرفون اليهود في القدس والضفة الغربية؟
منذ أن أعلن فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” في عام 1992 -حيث أكد أن الأسواق الحرة و”الديمقراطيات الليبرالية” سوف تسود إلى الأبد- ثم تلته افتراضات صموئيل هنتنغتون المناقضة، حول صراع الحضارات، والحاجة إلى “إعادة صنع النظام العالمي”، نشأت صناعة فكرية جديدة وانتشرت بين الكثيرين في واشنطن ولندن وأماكن أخرى. وبمجرد أن انتهت الحرب الباردة بانتصار مع إحساس متضخم بالقيمة السياسية، أصبح الشرق الأوسط هو الملعب الجديد للأفكار حول السيادة والعمليات العسكرية.
ومنذ ذلك الحين، كانت هناك حرب شاملة، إما بتحريض من أو بمشاركة القوى الغربية المختلفة. وكانت حربًا طويلة متعددة الأبعاد: فهي حرب مدمرة على الأرض، وحرب اقتصادية (عن طريق الحصار من جهة والعولمة واستغلال السوق الحرة من جهة أخرى)، وغزو ثقافي (الذي جعل التغريب و طريق المجتمعات إلى الحداثة)؛ مع حرب دعائية واسعة النطاق تستهدف الدين الرائد في منطقة الشرق الأوسط: الإسلام.
كانت الحرب على الإسلام حيوية بشكل خاص لتوحيد مجموعة واسعة من المثقفين الغربيين، والمحافظين، والليبراليين والمتدينين والعلمانيين على حد سواء. وكان كل ذلك لأسباب وجيهة:
– فالإسلام ليس مجرد دين، ولكنه وسيلة للحياة؛ لذا، فعن طريق تشويه صورة الإسلام، يمكنك شيطنة كل شيء مرتبط به، بما في ذلك بطبيعة الحال المسلمين.
– ساعدت الإساءة للإسلام والتي تحولت إلى موجة ضخمة يقودها الغرب من الإسلاموفوبيا في تأكيد صحة تصرفات الحكومات الغربية، ولو كانت عنيفة أو مسيئة. فقد أصبح نزع صفة الإنسانية عن المسلمين سلاحًا أساسيًا في الحرب.
– كان الأمر أيضًا تخطيطًا استراتيجيًا: فكره الإسلام وجميع المسلمين هو أداة مرنة للغاية من شأنها أن تجعل التدخل العسكري والعقوبات الاقتصادية ممكنًا في أي مكان توجد فيه المصالح السياسية والاقتصادية للغرب. فقد أصبح كره الإسلام عاملًا مشتركًا في خطاب دعاة فرض العقوبات على السودان، وجماعات النازيين الجدد المعادين للمهاجرين في ألمانيا، وفي كل مكان آخر؛ فالقضية لم تعد الوسائل العنيفة المستخدمة لتحقيق الهيمنة السياسية والسيطرة على الموارد الطبيعية، ولكنها، اختزلت بطريقة سحرية، فى كلمة واحدة: الإسلام. أو، في أحسن الأحوال، الإسلام وشيء آخر، مثل حرية التعبير، أو حقوق المرأة، وهكذا دواليك.
وهكذا، فإنه لم يكن مفاجئًا أن نرى أمثال إيان بلاك يفتتح مقاله في صحيفة الغارديان، بعد ساعات من تنفيذ مسلحين لهجوم قاتل في باريس ضد مجلة فرنسية يوم الأربعاء 7 يناير بقوله: “التهكم والإسلام لا يتفقان …”.
لم يقل كلمة واحدة عن تدخل الجيش الفرنسي وغيره من أشكال التدخل في الشرق الأوسط. أو دور فرنسا المدمر في سوريا. أو دورها القيادي في الحرب في ليبيا، أو الحرب في مالي، وهلم جرا؛ بل إنه لم يقل كلمة واحدة حول إعلان فرانسوا هولاند مؤخرًا عن كونه “جاهزًا” لقصف الثوار الليبيين، على الرغم من حدوث ذلك منذ عدة أيام فقط.
وبالطبع، أشار بلاك إلى الهجاء الإباحي من تشارلي إبدو واستهدافه للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لم يشر بلاك أو العديد من الكتاب الآخرين الذين سارعوا إلى ربط الموضوع بالإسلام، سوى قليل إلى الحروب البشعة والرهيبة ومظاهر التعذيب والاغتصاب والأفعال الشنيعة الأخرى؛ التي راح ضحيتها الملايين من الناس في الشعوب المسلمة. وبدلًا من ذلك، اقتصر الحديث على عدم التعايش الغربي الإسلامي. والمعنى المشترك هو: “نعم، في الواقع، هو “صراع حضارات”.
هل توقف أي من هؤلاء “المثقفين” لوهلة للتفكير أنه ربما، ربما فقط، كانت ردود الفعل العنيفة تجاه الإساءة للرموز الإسلامية تعكس مشاعر سياسية حقيقية، أو أنها تعكس على سبيل المثال، شعورًا جماعيًا بالإذلال والأذى والألم والعنصرية التي امتدت إلى كل ركن من أركان العالم؟
وأنه من الطبيعي أن الحرب التي يتم تصديرها باستمرار من الغرب إلى بقية العالم، يمكن أن تصدر في نهاية المطاف إلى المدن الغربية؟
أليس من الممكن أن يكون المسلمون غاضبين من شيء أكثر وأعمق من الفن الذي لا طعم له الذي يقدمه تشارلي إبدو؟
إن تجنب الإجابة على هذه الأسئلة سيؤدي إلى تأجيل محاولة جادة في إيجاد حل، والتي يجب أن تبدأ مع نهاية التدخل الغربي في الشرق الأوسط.
التقرير