بدأت بعض الميليشيات المسلحة في المنطقة في ممارسة أدوار كانت في السابق حكرًا على بعض الفواعل الرئيسية، على غرار الدول والمنظمات الإقليمية والدولية والشركات متعددة الجنسيات. فإلى جانب السيطرة على مناطق واسعة ببعض الدول، مثل سوريا والعراق، وإنشاء بعض المؤسسات الخدمية، بل وإصدار وثائق خاصة للسفر، وتأسيس أول كلية “جهادية” للطب، اتجهت بعضُ تلك الميليشيات نحو تبني سياسة خارجية خاصة بها تسعى من خلالها إلى التأثير في التطورات الإقليمية المحيطة بها.
وتكمن المفارقة في هذا السياق في أن بعض المواقف التي تتبناها تلك الميليشيات تجاه هذه التطورات لا يتصل، بشكل مباشر، بالصراعات المسلحة التي انخرطت فيها، ما يعني أنها تسعى إلى التحول إلى رقم مهم في العديد من الملفات الإقليمية، حتى لو كانت تلك الملفات لا تؤثر بدرجة كبيرة على موقعها الحالي. لكن استمرار هذه الأدوار الجديدة التي تقوم بها تلك التنظيمات يعتمد على التداعيات التي سوف تفرضها الحرب ضد تنظيم “داعش”، فضلا عن الصراعات المتصاعدة بين تلك الميليشيات وبعضها البعض.
مؤشرات عديدة:
تتعدد المؤشرات الدالة على توجه بعض التنظيمات والميليشيات المسلحة إلى تبني سياسة خارجية خاصة بها، ويتمثل أبرزها في:
1- إرسال مساعدات إنسانية عابرة للحدود: فمنذ نوفمبر 2012، قام تنظيم “أنصار الشريعة” في ليبيا بتنظيم حملات إغاثة متعددة لتقديم مساعدات إلى بعض المناطق التي تواجه أزمات مختلفة مثل قطاع غزة وسوريا والسودان.
2- فتح مكتب تمثيل سياسي: افتتحت حركة “طالبان” الأفغانية، رسميًا في 18 يونيو 2013، مكتبًا سياسيًّا لها في العاصمة القطرية الدوحة، وذلك بهدف تسهيل المفاوضات التي تجري بين “طالبان” والمجلس الأعلى للسلم في أفغانستان، أو بين “طالبان” وبعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي رحبت بتأسيس المكتب في الدوحة.
3- إجراء مفاوضات: دخلت بعض الدول في مفاوضات مع العديد من تلك الميليشيات، للإفراج عن أسرى أو مختطفين، على غرار المفاوضات التي جرت برعاية قطرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة “طالبان” لإبرام صفقة تبادل أسرى، في بداية يونيو 2014، قضت بإطلاق سراح الجندي الأمريكي المحتجز لدى “طالبان” بوي بيرغدال مقابل الإفراج عن خمسة قادة رئيسيين من “طالبان” في معتقل جوانتانامو. وقد أثارت تلك الصفقة جدلا واسعًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الانتقادات التي وجهها بعض النواب الجمهوريين لإدارة الرئيس باراك أوباما، والتي تركزت على أن الصفقة “تعرِّض الأمريكيين للخطر”، على اعتبار أن ذلك ربما يشجع بعض التنظيمات على تبني السياسة نفسها للضغط على واشنطن. وقد تكررت تلك الصفقات، خلال الفترة الأخيرة، لا سيما في سوريا، برعاية دول مثل قطر وتركيا وإيران، وذلك لإبرام صفقات تبادل أسرى أو مختطفين.
4- تبني مواقف محددة تجاه العديد من القضايا الإقليمية: ففي اليمن، أطلق زعيم حركة “أنصار الله” عبد الملك الحوثي، في 4 أغسطس 2014، دعوةً للخروج في تظاهرة للتضامن مع قطاع غزة والشعب الفلسطيني، والتنديد بالممارسات الإسرائيلية، إلى جانب رفض قرارات الحكومة برفع أسعار الوقود. كما ندد في “اليوم العالمي للقدس”، في 25 يوليو 2014، بالسياسات الأمريكية والإسرائيلية، وجدد دعوته لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. في حين اعتبر الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصر الله أن اتفاق جنيف النووي “المرحلي” الذي وُقِّع بين إيران ومجموعة “5+1” في 24 نوفمبر 2013، “كرَّس لتعدد الأقطاب في العالم، بما يعطي فسحة لدول العالم الثالث في البحث عن حلول”.
أسباب مختلفة:
يمكن تفسير اتجاه العديد من الميليشيات المسلحة إلى تبني سياسة خارجية خاصة بها في ضوء عددٍ من الاعتبارات التي تتلخص في:
1- اتجاه العديد من القوى الإقليمية إلى تأسيس علاقات قوية مع بعض “الفاعلين من غير الدول” المنتشرين في المنطقة، بشكل أدى في بعض الأحيان إلى تبني هذه الأطراف الأخيرة لمواقف خارجية ربما لا تتوافق مع السياسة التي تتبعها الدول التي تنتمي إليها، على غرار موقف “حزب الله” من الأزمة السورية، والذي لا يتوافق مع مبدأ “النأى بالنفس” الذي التزمت به الدولة اللبنانية، والذي يتأسس على عدم الانخراط في الأزمة تجنبًا للتداعيات المحتملة التي تفرضها على لبنان، وهو ما يعود إلى حرص الحزب، بالتنسيق مع إيران، على تمكين نظام الرئيس السوري بشار الأسد من تحقيق انتصارات نوعية، واستعادة المبادرة في صراعه مع قوى المعارضة المسلحة.
2- تصاعد حدة الاستقطاب الطائفي في المنطقة، بشكل دفع كثيرًا من الميليشيات المسلحة إلى الانخراط في صراعات إقليمية بعيدة عن حدودها، على غرار جماعة “الحوثيين” اليمنية، التي تشير تقديرات عديدة إلى إرسالها بعض مقاتليها لدعم قوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد في صراعها مع قوى المعارضة المسلحة، رغم اتجاهها بعد ذلك إلى تقليص هذه المشاركة، في الفترة الأخيرة، على خلفية التطورات المتسارعة التي طرأت على المشهد السياسي اليمني. فضلا عن بعض الميليشيات متعددة الجنسيات التي تقاتل في سوريا إلى جانب القوات النظامية.
3- تجاوز كثير من أزمات المنطقة نطاقاتها الداخلية لتتحول إلى صراعات إقليمية ممتدة، بشكل فرض عقبات عديدة أمام الوصول إلى تسويات بشأنها، خاصة أن تلك التسويات لم تعد ترتبط بالتوازنات السياسية في الداخل فحسب، وإنما تعتمد أيضًا على حسابات ومصالح القوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيها.
4- حرص هذه الميليشيات على توسيع قاعدة أنصارها ومؤيديها، من خلال تبني مواقف تجاه بعض القضايا التي تحظى باهتمام خاص، على غرار القضية الفلسطينية، لا سيما في ظل المواجهات المسلحة التي تخوضها، والتي تزيد من حاجتها إلى تجنيد مقاتلين جدد في صفوفها.
مسارات مفتوحة:
لكن يبدو أن استمرار تلك الميليشيات في تبني سياسة خارجية للتعامل مع التطورات الإقليمية المتسارعة التي تشهدها المنطقة، يرتبط بمتغيرين رئيسيين: أولهما، التداعيات المحتملة التي سوف تفرضها الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”. وثانيهما، تصاعد حدة الصراع بين تلك الميليشيات المسلحة. إذ إن نجاح الحرب في إضعاف تنظيم “داعش” وتقليص نفوذه في المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، فضلا عن اتساع مساحة الخلاف بين الميليشيات المسلحة، وهو المسار الذي يبدو أنه سوف يستمر خلال الفترة القادمة، يمكن أن يدفع بعض هذه الميلشيات إلى إبداء مزيدٍ من الاهتمام بإعادة تنظيم صفوفها، وترتيب أولوياتها من جديد، استعدادًا للمرحلة التالية، بشكل يمكن أن يسهم في تخليها تدريجيًّا عن الاهتمام بالتطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة.
المركز الاقليمي