قبل سبع سنوات من الآن، أحرق بائع تونسي نفسه دفاعاً عن كرامته، متسبباً بدون أن يعرف في اندلاع موجة من المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد أراد الناس في المنطقة الحصول على ما حُرموا منه على مدى ما يقرب من قرن من الزمن -نظاماً عادلاً، وحياة أفضل، وقليلاً من المساحة للتنفس.
لكن ما حصل عليه الناس بدلاً من ذلك، بعد مرور سبع سنوات، كان المزيد من الاستبداد والفوضى.
ليست الثرثرات بالتأكيد دليلاً موثوقاً تماماً ليتم الاسترشاد بها في الشؤون العالمية. لكن سائق سيارة أجرة يحب الثرثرة قال لي قبل بضعة أسابيع في اسطنبول: “يقولون إنها ستكون هناك حرب. هذا ما يتحدث عنه كل الذين يركبون هذه السيارة”.
أصبحت التكهنات حول نشوب “حرب إقليمية” واسعة الانتشار، ويتعلق ذلك إلى حد كبير بموت فكرة؛ ولنسمها التقدم أو الديمقراطية. لكن الناس في المنطقة لم يعد لديهم سبب آخر للاعتقاد بتقدم خطّي للتاريخ -بمعنى أنه مع مرور الوقت، سوف تصبح جميع الدول أكثر حرية وأكثر ازدهاراً وأكثر ديمقراطية. وقد ماتت أي فكرة تقول إن الأتراك أو العرب أو الفرس يمكن أن يعيشوا في ظل أنظمة حرة، منذ وقت طويل -سواء في شوارع القاهرة أو في دوائر المجتمع الدولي.
الآن، بعد سبع سنوات من بداية الربيع العربي، ليس لدى الشرق الأوسط شيء يتطلع إليه. فالمطالب بالديمقراطية في بلدان مثل البحرين وتركيا ومصر أجهضتها حملات الأنظمة منذ فترة طويلة. وانحدر الإصلاح الاقتصادي إلى مهاوي الفساد. والليبرالية أصبحت بلا حياة؛ والعلمانية ليس لها مؤيدون؛ والبعثية، والقومية العربية، والإسلاموية -كما يجادل البعض أيضاً- فشلت منذ زمن طويل. وقد ذهبت الأيديولوجيات -وكذلك فعل الأمل بالتغيير أيضاً.
وحتى البلدان التي كانت لديها ذات مرة فرصة معقولة لإقامة نظام ديمقراطي، مثل تركيا، أصبحت تتراجع. ومع الاستثناء الجزئي لتونس، هناك قبول صريح لما وصفه الراحل فؤاد عجمي “باستثنائية” المنطقة -فكرة أن الانتشار العالمي للديمقراطية والازدهار قد تجاوز الشرق الأوسط لأجيال عدة. ومن المرجح أن تتخطى الحرية هذا الجيل أيضاً.
بطبيعة الحال، لا يؤدي هذا الشعور بالعجز واليأس مباشرة إلى الحرب. لكنه يعني أن هناك الأقل مما تبقى لدى الناس ليخسروه -وأن الطغاة الشعبويين يمكن أن يستخدموا الحماس القومي للتعويض عن عدم شرعيتهم.
قلت لسائق سيارة الأجرة في اسطنبول: “أنا لا أعرف حقاً ما سيحدث”. هل يمكن أن تكون الحملة الداخلية التي أطلقها ولي العهد السعودي على الفساد مقدمة لحرب ضد إيران؟ هل تستعد إسرائيل لخوض مواجهة أخرى مع حزب الله؟ هل ستواصل بغداد محاربة الأكراد العراقيين -أم أن الحرب الكردية الداخلية التركية ستنتقل إلى سورية؟
أو، هل يمكن أن يحدث كل ما سبق في وقت واحد، بعد فتيل إشعال صغير على غرار اغتيال الأرتشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو في العام 1914، والذي يوقع الشرق الأوسط في فخ هوبزي لم يسبق له مثيل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية؟ كله ممكن.
لم يكن حال الشرق الأوسط مفزعاً دائماً على هذا النحو. ووراء في العام 2011، عندما اعتقد العالم بشكل جماعي -لمدة 10 دقائق تقريباً- أن المنطقة تقف على حافة اختبار ثورة ديمقراطية، كنت في مؤتمر أمن ميونيخ، استمع إلى هيلاري كلينتون. وقد وجهت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك نداء عاطفياً إلى قادة المنطقة من أجل الإصلاح: “في الشرق الأوسط لم نر بعد الأمن والتطور الديمقراطي وهما يلتقيان… على مدى عقود… لم تسعَ الحكومات إلى إجراء هذا النوع من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تجعلها أكثر ديمقراطية ومسؤولة وخاضعة للمساءلة. …إن الوضع الراهن هو ببساطة غير مستدام. لذلك بالنسبة لجميع أصدقائنا، لجميع الأصدقاء في المنطقة بما في ذلك الحكومات والشعوب، فإن التحدي يكمن في مساعدة شركائنا على اتخاذ خطوات منهجية للدخول في مستقبل أفضل، حيث يتم سماع أصوات الناس، واحترام حقوقهم وتلبية تطلعاتهم. وهذه ليست مجرد مسألة مثاليات. إنها ضرورة استراتيجية”.
لكن الربيع العربي، أصبح في مكان ما على الطريق، بعد ثورة مضادة ناجحة في مصر، والفوضى في ليبيا والعراق، والحروب الأهلية في سورية واليمن، أصبح مجرد نكتة. وبرز توافق آراء غربي هادئ على أنه من غير المجدي الدفع في اتجاه إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط. لن يقدم أي زعيم غربي نوع الرسالة التي أرسلتها كلينتون في العام 2011، بما في ذلك كلينتون نفسها. فالمستبدون راسخون بشدة، وهم أكثر من راغبين في دخول صفقات معاملات مع الغرب. ولم يعد لدى القادة الغربيين الرغبة أو الإيمان لتشجيع الديمقراطية.
عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط هذه الأيام، فإن الكلمة الطنانة التي تتردد في أروقة المجتمع الدولي هي “الاستقرار”، كنقيض لـ”الانتقال”. لم يعد أحد يراهن على الديمقراطية بعد الآن.
ولكن، هل تغيرت معادلة كلينتون للعام 2011: أن الديكتاتوريات هي تكوينات غير مستقرة بطبيعتها؟ ليس بالضرورة. من المحتم أن تنتج النظم القمعية عدم الاستقرار في نهاية المطاف. وما تزال الفجوة بين الشعوب والحكومات واسعة. وما يزال المستبدون في المنطقة لا يوفرون الحكم الرشيد. وما تزال المجتمعات منقسمة وتعوزها المساواة بعمق.
والأسوأ من ذلك، أن الشرق الأوسط ليس لديه الآن شبكة أمان. ومع أن مفهوم النزاع المسلح ليس جديداً في المنطقة، فإن هذه الجولة الجديدة من التوترات تجري على خلفية وجود نظام عالمي ليبرالي يصبح أكثر اضطراباً باطراد -مع قدر ضئيل من الثقة بالنفس بشأن قدرته على تحويل العالم. ولم تعد الولايات المتحدة الأميركية المنشغلة بنفسها والمنكفئة على نفسها ترى دوراً لنفسها في توفير الاستقرار الإقليمي أو رفع العرب من المراتب الدنيا على مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة. وتتواجد روسيا في الشرق الأوسط فقط من أجل دعم النظام السوري وتعزيز شعورها الخاص بالفخر الوطني. وتركيا أضعف كثيراً جداً محلياً من إمكانية الوفاء بوعدها بأن تكون “نموذجاً إقليمياً”، وإيران مهتمة أساساً بتوسيع نفوذ سياساتها الطائفية فقط. ولا يمكن أن يأتي أي خير من هذا الخليط.
وإذن، فلنعد إلى فكرة الحرب. لسوء الحظ، يبدو أن الشروط كلها موجودة هناك. وقد تتغير الحدود بشكل كبير، ويمكن أن تصبح بلدان غير قابلة للحكم، ويمكن أن يقوض اللاعبون من غير الدول قوة السلطة المركزية في أماكن مثل العراق أو سورية أو لبنان. ويمكن كثيراً أن تتدفق الحروب الطائفية عبر المنطقة في العقد القادم بينما يراقب العالم دمار واحدة من أقدم الموائل البشرية في العالم.
عندما تموت فكرة الديمقراطية، ما الذي يتبقى هناك لدى أي أحد ليخسره؟
أسلي أيدينتاسباس
صحيفة الغد